الحضارة هي التفوّق الإنساني في الإنتاجية العُمرانية والثقافية وعصبُها عنصرا العلوم والفنون، وهي كما أرى وجه من أوجُه الأمم والإمبراطوريات قديماً، وبها تُقاس قُدرات الشعوب ورُقيها وبِها تبقى الشعوب حيّه لا تموت ولا تفنى! وفي العصر الحديث أصبحت الحضارة بقالب التقدُّم مطلباً ضرورياً لتقوية نفوذ الدولة وإبرازها كدولة عُظمى كما انها سلاح للساسة الأذكياء، ودونها تُصنّف الدول بالتخلُّف والرجعية والسقوط.
وللتاريخ الحضاري صولات وجولات في علم الحضارات فهذا المصطلح يُشير إلى الحضارات التي وجِدت قبل 3000 سنة ما قبل الميلاد وينتهي بسقوط روما العظمى سنة 476م كما أن هذه الحضارات متعددة، كالحضارة البابلية والفارسية والأشوريين واليونانيين والإغريق والفراعنة وحضارات الهند والجزيرة العربية ووسط افريقيا وشمالها.
وقد علل الفلاسفة والمؤرخون وعلماء الآثار القديمة أسبابًا كثيرة لقيام الحضارات وانهيارها، وشبَّه "هيجل" الفيلسوف الألماني في أوائل القرن التاسع عشر المجتمعات بالأفراد الذين ينقلون شعلة الحضارة من واحد إلى الآخر، وفي رأيه أنه خلال هذه العملية تنمو الحضارات في ثلاث مراحل، حُكْم الفرد وحُكم طبقة من المجتمع ومن ثم حكم كل الناس، وكان هيجل يعتقد أن هذا النسق تسفر عنه الحرية في آخر الأمر لجميع الناس.
ويتضح من تعليل الفيلسوف "هيجل" أعلاه أن الحضارة تمنح الفرد السُلطة لدرجة إقرانها بالحُكم للناس! ثم تعلوا الحُريّات في أعلى مُنعطف الطرُق بعد بلوغ أوج الحضارة والتقدم، الحُريّات التي تمنح الفرد – الحق بالتفكير بعقلانية إلى ما وراء الغير معقول، وحينما يصل الفرد لهذه الدرجة من التفكير قد يبني نظريات تبني حضارات وتُسقط غيرها.
نعم.. فالعقل البشري لديه قُدرات خارقة ولست هنا بصدد التعريف عن قُدراته.
وإن فُقِدت الحُريّات بالتفكير وأصبحت العاطفة تطغى على مُحيط شعب بأكمله كما هو حال " الشعوب العربية " غالباً نجد أن العاطفة تطغى وذلك بسبب تكبيل وتقييد العقل بحدود ضيقة لا تتجاوز كيفية التحصيل في سُبل العيش والتكاثُر، كما يوجد فئة من الأدمغة العربية من هاجر إلى حضن المجهول عندما وجد حضُن بلدهِ يؤويه بجفاء، هذا الدماغ العربي الذي يخرج كمواطن عادي من دولتهِ ويُستقبل كمُهاجر، حتماً سيعود بعد فترة وجيزة يحمل لقب عالِماً!
فبجانب افتقار الحُريّات الفِكرية وحكرها بِدوافع غير واضحة من بعض رجال الدين الذين ظلوا مرارا وتِكراراً يُحذرون من الغوص في التفكير خاصةً فيما يتعلق بالفنون والعلوم؛ تحت ذريعة تقليد الغرب "مُحرّم".
كما أنه هناك عوامل أخرى لا تزيد أهمية عما سبقها، كغياب الحوافز المادية والمعنوية والبيئة البحثية الموائمة الغير مُعقدة بالبنود والدعم الغير منقطع، إننا - كعرب - نفتقر لكل هذهِ دون مُبالغة وإجحاف حق أية مؤسسة تُعنى بالأبحاث والابتكارات ونحوها، هذه الأسباب هي بإيجاز أبرز عوامل تسرُّب الكفاءات إلى الخارج.
إننا أمام مُنعطف خطِر جداً عندما نرى هجرة أدمغة لا تتجاوز الثلاثينيات من عمرها إلى مختلف قارات العالم، في الوقت الذي نحتاج هذه العقول في زيادة تقدُّم ورُقي بلادنا..
ويظل هناك بالأعماق عدة تساؤلات أصبحت الإجابة عليها مُلحّه، فمن زرع في القلوب الخوف للغوص في بحر الفنون؟ ومن جعلنا نضطرب لنحيد عن العقل ونبحث في مكنون العلوم؟ من ربط فكرة السعي لإعمار الأرض بالإقبال على ملذات الحياة ونسيان الآخرة؟ من جرّد الأذهان من حُب الحياة؟ من حرّم على الآخرين السفر والبحث والتنقيب عن حقائق العلوم؛ بغية الزُهد في الحياة؟ من وراء هِجرة الأدمغة البشرية العربية عبر القارات الأكثر تطوراً في العلوم والفنون عندما نُقارنها بِنا كعرب؟ ما الذي أوصلهم إلى دفّة اليأس بأن يطرقوا المؤسسات المعنية في مجال البحث والابتكار؟ من غيّب عنا قولهِ تعالى: (أفلا تعقلون، أفلا ينظرون، أفلا تتدبرون، أفلا يعلمون، أفلا تتفكرون) وقوله تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
كُثر ومع الأسف في عالمنا العربي من علّمنا وارتقى المنابر ليخلط الدين بالحضارة ويحصُر حضارة المسلمين بمفهوم ضيّق، ويجهل أو يُضلل فكرة معنى "الحضارة" لدواعٍ غير معلومة باطنها، أما ظاهرها فهو أن " تقليد الغرب بالعلوم والفنون مُحرّم " كما أن الإبحار في التفكير هو باب من أبواب الشيطان!
إننا أمام مُنعطف خطِر جداً عندما نرى هجرة أدمغة لا تتجاوز الثلاثينيات من عمرها إلى مختلف قارات العالم، في الوقت الذي نحتاج هذه العقول في زيادة تقدُّم ورُقي بلادنا، فالتقدُّم هو سلاح كما ذكرنا آنفاً للساسة الأذكياء، وهم قِلة من يستخدموا هذا السلاح، ومن استخدمه الآن هو في مصاف الدول العالم الأول المتقدم غير المُتأخر لقرون، فلنقف أمام كُل من يُحجّم من عقولنا ويجعلنا أضحوكة أمام الأُمم بتأخُرنا، وللتاريخ عِبرة في "تاريخ أوروبا في العصور الوسطى" عندما هيمنت الكنيسة بدينها الوضعي ولعِب رجال الدين دور سياسي مُحنّك بقالب ديني على أدمغة البشر، وجعلتهم كدُمى حتى أنه لم يعرف تاريخ الأديان لهذه الأفعال الشاذة لها مثيل، فقد أشغلت العقل الأوروبي عن العلوم والفنون لعدة قرون، وعندما كان ألد وأخطر أعدائها (المسلمين) أثناء الحروب الصليبية، فقَد المقاتلون ثقتهم في الكنيسة نتيجة لخيبة أملهم في النصر الذي وعدتهم به وعداً قاطعاً، ففكر رجال الدين في وسيلة تجعل المقاتل يندفع للاشتراك في الحملة الصليبية فكانت تلك الوسيلة (صكوك الغفران)! حيث أصدر المجمع الثاني عشر سنة 1215م" قرارا يمنح البابا حق امتلاك الغفران للمذنبين!
ولا يحظى بالحصول على صك الغفران إلا أحد اثنين:
رجل ذو مال يشترى الصك من الكنيسة حسب التسعيرة التي تحددها هي.
رجل يحمل سيفه ويبذل دمه في سبيل نصرة الكنيسة والدفاع عنها وحراسة مبادئها.
وبالمقابل عندما انتصر العقل على هذه الخُزعبلات كان لانتصاره نتائج سلبية على الكنيسة ووضع حد لطغيانها نهائياً، ورأى طبقة الأمراء وقتها أنهم أصبحوا هم وشعوبهم ليسوا إلا أدوات في يد رجال الدين الذين يمنّون عليهم بالعفو إن رضوا ويعاقبونهم بالحرمان إن سخطوا.
نقلا عن الرياض