مفهوم العمل الوقفي فيه نوع من الاستثمار من جهتين: الأولى استثمار في التنمية البشرية، والأخرى استثمار في تنمية الوقف وتوسعته لتعظيم أثره، وهذا يتطلب إيماناً حقيقياً بقيمة المسؤولية الاجتماعية؛ لأنها أحد أسس التنمية والاستقرار..
في الأيام القليلة الفائتة، كنت في زيارة للصديق والأستاذ العزيز الدكتور سهى أوزكان المدير العام السابق لجائزة الأغاخان للعمارة الإسلامية ومؤسس موقع عمارة العالم، الذي يمنح جائزة سنوية لأفضل مبنى على مستوى العالم، في مكتبته المعمارية في مدينة «بودروم» التركية، وهي مبنى تاريخي أعاد ترميمه وسط المدينة، وأسس المكتبة وجمع فيها تاريخيه المهني والعلمي، الذي يمتد أكثر من 50 عاما، واشترى مبنى مجاورا وجعله دارا للضيافة، أو بالمفهوم التاريخي «رباطا» لطلاب العلم الراغبين في الإقامة وعمل بعض الدراسات والأبحاث.
يقول الدكتور «سهى» لقد استثمرت جميع مدخراتي في هذا العمل الوقفي، وأقوم بالصرف عليه حتى الآن، وأتمنى أن يستمر في المستقبل.
معرفتي بأوزكان تعود إلى منتصف الثمانينيات عندما كنت طالبا للعمارة، فقد كان في أوج نشاطه المهني، حيث تولى إدارة الأغاخان عام 1982م، واستمر حتى عام 2006، وكان مهتما بالتوثيق وإعادة قراءة تاريخ العمارة في الحضارة الإسلامية، لذلك لم أستغرب هذه المبادرة منه، وهي - في حقيقة الأمر - مبادرة مهنية وعلمية نادرة، توجه أسئلة أخلاقية لكثير من المهنيين والاكاديميين في كل المجالات.
لقد جعلتني «المكتبة المعمارية» في بودروم أعيد التفكير في مفهوم الوقف الخيري؛ لأن مشكلة الأوقاف الخيرية غالبا ما تتجه إلى الصدقة المباشرة أو بناء المساجد، مع أن الأوقاف الإسلامية التاريخية فيها كثير من التوجهات لخدمة طلاب العالم وبناء المؤسسات العلمية، مثل الزيتونة في تونس، والأزهر في القاهرة، والقرويين في فاس، لكن - مع الأسف - لم تتطور هذه الأوقاف كي تصبح مؤسسات علمية ومهنية كبيرة، ولم تتحول هذه المبادرات إلى ثقافة مجتمعية، كما حدث في الغرب على سبيل المثال.
في الولايات المتحدة الأميركية، زرت مؤسسة «سمثسونيان»، وهي مؤسسة وقفية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والآن هي مؤسسة مسؤولة عن أهم المتاحف في واشنطن والولايات المتحدة الأميركية، وبالطبع جميع الجامعات الأميركية قائمة على أوقاف كانت شخصية وتحولت إلى مؤسسات علمية عملاقة. وفي اعتقادي أن سبب ضعف الوقف لدينا هو عدم تحوله إلى عمل مؤسسي مستقل ومنظم، وبالتالي يتراجع مع غياب الموقف ويختفي أو يتدهور مع مرور الوقت.
يبدو لي أن هناك حلقة مفقودة بين مسؤولية الدولة والمسؤولية الاجتماعية، التي يفترض أن يتحملها الأفراد في المجتمع، وأعني هنا جميع الأفراد كل حسب مقدرته، فالمبادرات الوقفية ليس بالضرورة أن تكون كبيرة، بل قد تكون بحجم مكتبة بودروم، وقد تكون مجرد درس تطوعي في المجال المهني، وقد تكون على شكل مؤسسة مهنية عملاقة، مثل جائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد، التي تشكل أحد الأوقاف المهنية/ الثقافية المهمة في المملكة، فهي موجهة إلى المتخصصين في العمارة، وتركز على تطوير عمارة المسجد والحرف والتقنيات المرتبطة بهذه العمارة، وتعمل في الوقت نفسه كجهة استشارية لتطوير العمارة في هذا المجال.
مفهوم العمل الوقفي هنا فيه نوع من الاستثمار من جهتين: الأولى استثمار في التنمية البشرية، والأخرى استثمار في تنمية الوقف وتوسعته لتعظيم أثره، وهذا يتطلب إيمانا حقيقيا بقيمة المسؤولية الاجتماعية؛ لأنها أحد أسس التنمية والاستقرار.
ما أود قوله هو أن الوقفين المهني والثقافي لهما تأثير عميق في استدامة التنمية الاجتماعية، ويلامسان مباشرة حاجة الناس، ويعملان على تغييرهم، وهذه حقيقة تاريخية، وأغلب المجتمعات التي حققت تحولا ثقافيا وعلميا عميقا كان للمبادرات الوقفية المهنية الفردية دور كبير في إحداث هذا التغيير، لكنها مع الوقت تحولت إلى عمل مؤسسي؛ لأن مساهمة الأفراد في دعم الأوقاف المهنية الناجحة كانت مهمة ومؤثرة، فليس بالضرورة أن يكون ما نوقفه يحمل أسماءنا بقدر ما يكون له تأثير، لذلك تجد أن كثيرا من المساهمات الوقفية الفردية في الغرب تصب في أوقاف مؤسسية قائمة، فتزداد هذه الأوقاف قوة وتستمر في دورها المؤثر.
وقف المكتبة المعمارية قد يراه البعض عملا بسيطا، لكنه - في حقيقة الأمر - يبعث برسالة إلى المجتمع المشغول بالاستهلاك، واللاهث وراء المتعة، وينبهه إلى أهمية المسؤولية الاجتماعية التي يجب أن تتحملها النخب الثقافية ورجال الأعمال، فكما نأخذ طوال حياتنا يجب أن نعطي، وأن نقدم شيئا للمجتمع في المقابل، وأعتقد أن أفضل ما يمكن أن يقدمه كل منا هو المساهمة في بناء المجتمع المهني المعرفي، الذي يصنع التحولين الاقتصادي والثقافي.