لثوم بن عمرو العتابي شاعر عباسي نال حظوة كبيرة لدى هارون الرشيد والخليفة المأمون.. عاش في فترة كثر فيها تأليف الأحاديث الأمر الذي جعله يتخذ موقفا ساخرا من الواضعين والمصدقين على حد سواء.. وذات يوم كان يمشي في بغداد مع عمر الورّاق فاشترى خبزا وبدأ يأكله بين الناس (وكان هذا الفعل حينها لا يليق بالنبلاء) فقال له الوراق: أما تستحي تأكل بين الناس؟ فقال العتابي: أكنت تحتشم أن تأكل بين البقر؟ قال الوراق: لا، قال: هؤلاء ليسوا بشرا واصبر حتى أريـك.. وصعد فوق مكان مرتفع وبدأ يحدث الناس بأحاديث من تأليفه حتى اجتمع من في السوق فقال في نهاية خطبته: ورُوي عن رسول الله أنه من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار.. فما بقي أحد من القوم إلا أخرج لسانه نحو أرنبة أنفه ليبلغها، فنزل وتركهم على هذه الحالة وقال للوراق: ألم أخبرك أنهم بقر!
.. ولفهم موقف العـتابي علينا العودة الى أيام المصطفى صلى الله عليه وسلم حين كان عمر بن الخطاب ينهى عن رواية الحديث ما لم يسمعه جماعة من المسلمين الثـقات (وكان يضرب أبا هريرة على ذلك)..
وكان هذا أيضا منهج عثمان بن عفان حيث روى الإمام أحمد (في المسند) والخطيب البغدادي (في قبول الأخبار) عن محمود بن لبيد قال: "سمعت عثمان على المنبر يقول: لا يحل لأحد أن يروي حديثا عن رسول اللّه لم أسمع به على عهد أبي بكر وعمر" وروى الرامهرمزي بإسناده عن السائب بن يزيد قال: "أرسلني عثمان إلى أبي هريرة، قال: قل له: يقول لك أمير المؤمنين: ما هذا الحديث عن رسول اللّه؟ لقد أكثرت، لتنتهينّ أو لألحقنّك بجبال دوس"..
وكان الصحابة الكرام يفعلون ذلك خوفا من التقول على رسول الله، أو إساءة فهم ما قال وفعل، أو اتخاذ ما قال وفعل كتشريع غير مقصود.. وليس أدل على ذلك من قلة الأحاديث التي رووها بأنفسهم رغـم أنهم الأقرب لمنبع الوحي والأكثر ملازمة لرسول الله منذ فجر الرسالة (والدليل أن أحاديثهم في صحيح البخاري لا تتجاوز 11 حديثا فقط لعثمان بن عفان وأبي بكر دون تكرار)!
وحتى حين تتأمل سيرة الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم تكتشف أن هذه "المحاذير الثلاثة" (التقول، وسوء الفهم، وإلزام الناس) حدثت حتى أثـناء حياته، وتداركها بنفسه أكثر من مرة..
فحين امتنع مثلا عن أكل الثوم وقال "مَنْ أَكلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخبِيثةِ فلا يقرَبَنَّ مُصَلانا" قال الناس "قد حرمت قد حرمت" فبلغه ذلك فقال: وَاللَّهِ مَا لِي أَنْ أُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ رِيحَهُ وَيَأْتِينِي مِنَ الْمَلائِكَةِ فَلا أُحِبُّ أَنْ يَجِدُوا رِيحَه".. وهناك أيضا حادثة تلقيح النخل حين أخذ الأنصار كلامه كتشريع (بتركه على حاله) فتراجع المحصول فقال لهم "أنتم أعلم بأمور دنياكم".. وحوادث أخرى كثيرة لايتسع لها المقال ولكنها تؤكد أن ليس كل ما يقوله ويفعله يُـقصد بـه الأمر والتشريع (ولكنه قد يصبح كذلك في حال تناقله الناس بصيغة الإلزام وبمعزل عن السبب والسياق)!
.. أما المصيبة الكبرى فـحدثت بعد انقضاء عهد الصحابة الكرام حين افترق المسلمون وتعددت الطوائف وبدأ كل طرف يختلق أحاديث مكذوبة ترفع من شأنها أو تدعم وجهة نظرها.. وليس أدل على ذلك من الاختلاف والتفاوت بين الأحاديث الموجودة في كتب الطوائف الإسلامية، وحقيقة أن الامام البخاري كان يحفظ 600 ألف حديث لم يختر منها سوى 4 آلاف (باستثناء المكرر منها)!
.. أما المصيبة التي لا تقل عن تـأليـف واختلاق الأحاديث فهي وجود المصدقين أو (بقـر العـتّابي) الذين يتناقـلونها في كل زمان دون تثبت أو تحفظ أو تحكيم للعـقـل والمنطق.. مصيبة عظيمة كونها تـتقول على خاتم الأنبياء، وتحشرها تحت مظلة الديـن، وتخالف بمعناها كثيرا من آيات القرآن الكريم!