رغم أن جائحة كورونا ما زالت ملقیة بظلالھا ورعبھا واحترازات تفادیھا، إلا أن ذلك لم یحل دون التھیؤ لرمضان، في عموم
المجتمعات الإسلامیة، حیث تتزامن استعدادات استقبالھ مع أواخر شعبان، ویُخصص یوم للاحتفال بقدوم الشھر المبارك،
یجتمع فیھ الأھل والأصدقاء والجیران وتقدم أنواع من الأكلات الشعبیة والحلویات، وھو التقلید الذي یُطلق علیھ السعودیون،
ّ خاصة في المنطقة الغربیة الـ«شعبنة»، وھو ما یشبھ وداعا معلنا لشھر شعبان بكل ما لذ وطاب من مأكولاتھ، واستقبال وقت
.مختلف من الروحانیة، ببالغ حب ولھفة في صفة تواصل وترابط اجتماعي
وإذا ما استعدنا تعریف أن «الفلكلور ھو حفریات حیة تأبى أن تموت»، للأمریكي بوتر الذي یوضح «إن الفلكلور ھو الرواسب
ّ العلمیة والثقافیة للتجربة الإنسانیة، على مدى العصور، أي أنھ ھو الموروثات الثقافیة»، یمكننا القول إن «الشعبنة» فلكلور
شعبي من الصعب تحدید تجذره التاریخي وھذه طبیعة الفلكلور، إذ تظل تحوطھ دائما عدة تفسیرات مختلفة. ویشیر البعض إلى
أنھا حزمة تراكمات لعادات اجتماعیة تطورت وفقا لثقافات الشعوب وتغیراتھا السیاسیة والاجتماعیة، بینما یرى آخرون أنھا
ّ عادة منقولة من العھد المملوكي إلى مدن الحجاز.. تضاربت الآراء حول منشأ ھذا التقلید ولكن نظرا لارتباط «الشعبنة» بشھر
ّ رمضان، وطبیعة المجتمع المكي، یكون أقرب تفسیر لنشوء ھذه العادة، منطلقا مما اعتاده الناس في المجتمع القدیم، حیث كانوا
یخرجون إلى الشعاب والبساتین المجاورة لمكة، تحریا لھلال رمضان، ومع مرور الوقت، یبدو أن ھذا الخروج، اكتسب ملامح
. ّ جدیدة شكلت عادة (الشعبنة) في المجتمع المكي بالخصوص والحجازي عموما
ّ وخلافا (للشعبنة)، تنوعت مظاھر الاحتفاء برمضان في المجتمعات الإسلامیة، إلا أنھ ومنذ رمضان العام الماضي، اختلف
الأمر، بشكل واضح جراء الجائحة التي استمرت حتى ھذا الوقت. لم یعد رمضان لطبیعتھ الاحتفالیة التي نعرفھا، فقد كانت
الأسواق الشعبیة تكتظ بالمتسوقین، وتعلق أدوات الزینة في كل سوق، وكل زقاق مزدحم یُ ّوشى بالأنوار وتتدلى من جدرانھ
الفوانیس، التي تشیر بوجھ خاص إلى بدء شھر الرحمة، فھي من أكثر الرموز التي تستخدم للزینة في البیوت وبطاقات
. ُ المعایدات إعلانا بقدوم الضیف المنتظر
أصل كلمة «فانوس» یرجع للغة الیونانیة، إذ تُشتق من كلمة إغریقیة قدیمة «فناس» كانت تُطلق على إحدى الأدوات التي
تُستخدم فى إضاءة الشوارع، وكانت ھذه الفوانیس تُصنع من المعدن، تطورت وأصبحت تُصنع من النحاس؛ لسھولة النقش علیھ
.وتزیینھ
ّ ثم أحداث تاریخیة توضح الصلة الوثیقة بین الفوانیس والشھر المبارك وردت في عدة مرویات، فقد قیل إن فوجا ضخما من
المصریین خرجوا من دیارھم لاستقبال المعز لدین الله الفاطمي الذي وصل إلى مصر قادما من الغرب، حاملین المشاعل
والفوانیس الملونة والمزینة، لإضاءة الطریق إلیھ. وھكذا بقیت الفوانیس تضيء الشوارع حتى آخر رمضان، لتصبح عادةً یُلتزم
.بھا كل سنة.. ویتحول الفانوس من جمودتھ إلى رمز للفرحة وتقلید محبب في رمضان
في روایة أخرى، قیل إنھ خلال العصر الفاطمي، لم یكن یُسمح للنساء بترك بیوتھن إلا في رمضان، وكان یسبقھن غلام یحمل
فانوسا لتنبیھ الرجال بوجود سیدة في الطریق لكي یبتعدوا. بھذا الشكل كانت النساء تستمتعن بالخروج وفي الوقت نفسھ لا
یراھن الرجال. وبعد أن أصبح للسیدات حریة الخروج في أي وقت، ظل الناس متمسكین بتقلید الفانوس حیث یحمل الأطفال
.الفوانیس ویمشون في الشوارع ویغنون
أما الروایة الثالثة فتقول إن أحد الخلفاء الفاطمیین أراد أن یضيء شوارع القاھرة طوال لیالي رمضان، فأمر كل شیوخ المساجد
.بتعلیق فوانیس تضاء عن طریق شموع توضع بداخلھا
جمیع ھذه المرویات تعود في أصلھا إلى مصر الفاطمیة، وسواء بدأ ھذا التقلید اللطیف عفوا أو عمدا فقد انتقل إلى دول العالم
.أجمع حتى أصبح أبرز الرموز الرمضانیة الیوم
وتحت وطأة الجو العام لظلال الجائحة، مازال المجتمع ممتلئا بالحیاة، یُعلق الفوانیس ولا یأبھ، ویتداول التبریكات بحلول الشھر
المبارك، وتجتمع فیھ الأسر - بتخفف وفقا لنظام التباعد الاجتماعي حدیث العھد - دوریا على الإفطار عند واحد من أفراد
. ُ العائلة مبتدئین بكبیرھا، موثقین بذلك أواصر القرابة ومعززین قیمة الأسرة بالنسبة للمجتمع
وناھیك عن ھذا التجمع الأسري، یظل المظھر الفلكلوري/ الشعبي لرمضان، ملقیا بظلالھ على ثقافة الطعام. إذ تجتمع العوائل
.الكبیرة منذ الیوم الأول على مائدة واحدة، فیھا من الأطباق الشعبیة والموروثة ما لا یمكن حصره
فنشاھد التمیس والفول والشریك والسوبیا والساقدانة على المائدة الحجازیة، والعصیدة والعریكة والمغش على المائدة الجنوبیة،
ویشدك مذاق الحنیني والھبیشة والتشریبة على الموائد الشمالیة، إضافة إلى الشوربة والسمبوسك كأطباق مشتركة بین جمیع .المناطق
ُ لیس ذلك وحسب، بل یتشارك الجیران أطباقھم فیما س ُ مي قدیما (بالطعمھ) وھي عادة رئیسة یحرص علیھا الأھالي في رمضان،.وتُعرف بأنھا اقتطاع جزء من الطبق وإرسالھ للجیران قبیل المغرب
بھذه العادات وبغیرھا مما لا یمكن حصره تبدو مجتمعاتنا كأنھا -لا شعوریا- تعبر عن مزاجھا، وتعلي تقالیدھا وفلكلورھا
.وموروثھا الثقافي في وجھ الجائحة
أخلص إذن إلى أن كورونا، وإن استطاعت، التأثیر في خلخلة الصورة العامة، وإحداث شيء من الإرباك، لكل أنماط الحیاة في
كل أصقاع الدنیا، إلا أنھا بالتأكید لن تقدر على كسر إطار الصورة الرمضانیة في المجتمعات الإسلامیة بكل ما فیھا من تلاحم
.اجتماعي، وحمولات فلكلوریة، لھا أبعادھا ودلالاتھا العمیقة، التي ھي بالضرورة أقوى من فیروس عابر
نقلا عن الوطن السعودية