هيئة الاستثمار، من الهيئات الوطنية التي تعلقت بها آمال كبيرة، أكبر طموحاً من آمال أقرب البلدان إلينا في فلسفتها الاستثمارية، وكنا على هاجس هذا الحلم الكبير، في غسق يتطلع لفجر صادق، فإذا بالطرح الإعلامي الساخن على هذه الهيئة لا يشعر بهذا الفجر، بل بفجر آخر، زفته وعود متتالية، فأسفرت عن فقاعات من الامتصاص الإعلامي.
كم للهيئة من السنين، وكم لنا من الانتظار ، وما حجمُ المُشاهَد في مستوى طموح الدولة بقيادة قائد استثنائي لا يرضى بأنصاف الحلول، ولا أرباعها، لقد كشف الإعلام في توافق غير مسبوق، وطرح استقرائي موثق لا يرتجل المادة، بل يؤصلها ويحللها، عن رصد سلبياتٍ عدة في منجزات الهيئة الموعودة والموهومة، على حين لم توضح رداً عليه إلا بما هو أسوأ مما رصده عليها.
آمال الجميع من هذه الهيئة وإداراتها ومراكزها ذات الصلة تنحدر من آمال قائدنا الملهم، الذي غرس حفظه الله في نفوس مواطنيه الهمة العالية، والمصداقية والشفافية، وهو من لا يقبل غير معيار المصلحة العامة في نَفَس طويل لا يتهيأ إلا لحُكماء القادة وزُعماء الأمة، ودور الإعلام الرقابي الذي أعطاه ملك الشفافية الحرية المنضبطة والمسؤولة الرصد والتنبيه بالكلمة المسؤولة والموثقة، لا التدخل في مفاصل العمل ومباشرته.
وحصول مشروع خادم الحرمين الشريفين لتطوير القضاء على الصدارة الدولية في تسجيل الملكية الذي ثمنه مجلس الوزراء، وتفاعل معه الإعلام بشكل لافت، حدثٌ مؤثر يأتي في قمة محفزات الجذب الاستثماري، وقد تجاهلته تنويهاً هيئة الاستثمار في منتدى التنافسية، في حين أنه محسوب على نجاح رهانات الملك، وليست أي رهانات بل هو رهان قضائي له بعدٌ شرعيٌ واجتماعي (واقتصادي) - وهذا الأخير يعني الهيئة كثيراً- والملاحظ أن الهيئة سردت في منتدى التنافسية مراتب دون هذه المرتبة التي حصل عليها مرفق العدالة بكل جدارة من بين (183) دولة.
ولا يخفى أن التجاهل الحقيقي من قبل الهيئة إنما هو لمنجزٍ كبيرٍ وغير مسبوق ، مسجلٍ لمشروع الملك لتطوير مرفق القضاء، وهو مفصلٌ حيويٌ في الاقتصاد والاستثمار، كما تجاهلت تنويه الحكومة به، مع أنه لم يحصل التنويه بما تذكره الهيئة من أرقامها التي ظلت محل نقدٍ لاذعٍ شكّل مع الأسف رأياً عاماً ضدها، وضد ما يصدر منها من تصريحات ووعود، لا أقول هذا وحدي بل عامة الكتاب والمحللين صرّحوا به في حين لم تحظ الهيئة ولا بمعشار ما كتب عن منجز مشروع الملك لتطوير مرفق القضاء، مع محاولاتها الإعلامية المكثفة، لا لشيء إلا لأن إعلامنا يترجم صراحة وشفافية وصدقية رمزه القيادي: خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وهو من تشكّل هذه المعاني الرفيعة طليعة المتبادر من شخصيته السياسية المحنكة.
من الجيد أن تحدد موقعك ثم تنظر بعين طموحة ما تريد أن تصل إليه خلال زمن محدد مناسب لذلك الطموح ، ومن الجميل أن تحتفل بتحقيق ذلك الحلم ، وما طمحت إليه ، أو قريباً من ذلك ، لكن من غير المقبول أن يكون الوصول بعمل غيرك وتتجاهل ذلك الأمر وتنسب النجاح إليك ، ويتأكد عدم القبول عندما لا يقتصر الأمر على عدم مشاركتك في حصول ذلك النجاح ، بل يتعداه لأن تكون سبباً في عدم اكتمال ذلك النجاح الذي سعى فيه غيرك ، ما يدلل أعظم الدلالة على عدم استيعابك للآلية والكيفية التي تصل بها إلى ما تريد ، ويتأكد السوء إن كنت تعلم بخطئك ولكن تريد إخفاء ذلك ، وذر الرماد في العيون!!
وقريباً مما نحن فيه ما جاء في منتدى التنافسية الذي نظمته الهيئة العامة للاستثمار ، وذلك عندما وقف محافظ الهيئة العامة للاستثمار متحدثاً ومعلناً نجاح عمل الهيئة في قرب الوصول إلى الهدف المنشود للهيئة وهو (10×10) بمعنى أن نكون من ضمن الدول العشر الأولى في التصنيف العالمي الصادر من البنك الدولي والمتعلق بممارسة أنشطة الأعمال ، وذلك من خلال إخضاع إجراءات تلك الدول التي تؤثر في أهم عشر مراحل من حياة منشآت الأعمال ، للقياس والفحص الدقيق ، وقد حصلت المملكة في هذا العام على المركز الحادي عشر من بين مائة وثلاث وثمانين دولة ؛ فهل كان ذلك النجاح من صنع الهيئة ؟ أو كان بسبب منها ؟ أبين ذلك في النقاط التالية :
أولاً : من المعلوم أن تقييم الدول لدى البنك الدولي يكون وفقاً لتلك العشرة عناصر المؤثرة في حياة منشآت الأعمال والمتعلقة بالإجراءات الحكومية المعززة لأنشطة الأعمال التجارية وحماية حقوق الملكية ، وبالنظر في هذه العناصر نجد أن بعضها يعود لإجراءات جهات حكومية أخرى بينما أغلبها المفترض فيها أنها تعود لعمل الهيئة العامة للاستثمار لكي يتسنى لها أن تفخر بنجاحها فيه ، والواقع أن حقيقة الأمر خلاف ذلك بل على النقيض من ذلك من خلال النظر في تقييم تلك الدول في كل عنصر من هذه العناصر التي بناءً عليها يصدر البنك الدولي تصنيفه ، بيد أن الهيئة العامة للاستثمار لم تسهم في صناعة هذا النجاح بل لا أعدو الحقيقة إن قلت إنها ساهمت وبشكل فعال في التقليل من توهج هذا النجاح ، ذلك أن التصنيف يكون بمجمل مراكز المملكة في جميع العناصر المؤثرة في منشآت الأعمال ؛ وبالنظر في مركز المملكة في كل عنصر على حدة نجد أن الذي أسهم وبشكل فعال في حصول المملكة على المركز الحادي عشر في تصنيف البنك الدولي لعام 2011م هو حصولها على المركز الأول في سهولة وسرعة تسجيل الملكية !!. وهذا الأمر تعنى به وزارة العدل منفردة لا تشاركها فيه أيٌ من الجهات الحكومية الأخرى ، ويأتي في المرتبة الثانية من حيث المساهمة في هذا النجاح العنصر المتعلق بتخفيض التكلفة الضريبية لعمل منشآت الأعمال وهذا عائدٌ للسياسة المالية التي تنتهجها الدولة في عدم اللجوء إلى فرض الضرائب كوسيلة ٍ لإغناء الخزينة العامة . وهذا الأمر مستقر في السياسة العامة لهذه الدولة المباركة قبل قيام كيان الهيئة العامة للاستثمار ، ولا دور للهيئة فيه ؛ حيث حصلت المملكة فيه على المركز السادس ، أما بقية العناصر المؤثرة في التصنيف والتي تتعلق بعمل الهيئة ، فإنها لم تسهم في تحقيق هذا النجاح ، بل إن المملكة قد حققت في بعضها مراكز متأخرة جداً كحصولها على المركز (140) من بين (183) دولة في مسألة تنفيذ العقود من حيث عدد الإجراءات ، والمدة اللازمة لها ، والتكلفة الفعلية ، كما حققت مركز (65) في معدل استرداد الدين والمدة الزمنية ، والتكلفة الفعلية لذلك ؛ ما رتب عليه عدم حصول المملكة على مراكز متقدمة أكثر في التصنيف ، ودخولها ضمن الدول العشر الأول في التصنيف . من ثم كان الأليق بالهيئة العامة للاستثمار التواري عن الأنظار لكونها ساهمت وبشكل فعال في عدم اكتمال البناء والنجاح ، وعدم الصعود على نجاحات الآخرين ، وادعاء ما ليس لها ، بل عليها اقتفاء آثار الناجحين والسير على خطاهم .
ثانياً : إن من السيئ أن تعلق النجاح بسبب غير موصل لهذا النجاح ، ويتضح ذلك في قيام معالي رئيس الهيئة العامة للاستثمار بتعداد المبالغ المالية التي تم جلبها للاقتصاد السعودي بمليارات الريالات ، مبرهناً بذلك على نجاح الخطط والاستراتيجيات التي تسير عليها الهيئة ، وكأن الاقتصاد السعودي اقتصاد ضعيف من حيث حجم السيولة النقدية ، وأنه قائم على الضريبة المفروضة على هذه التدفقات النقدية ، مع أن من أهم الحوافز الاستثمارية في المملكة للمستثمرين هو تخفيض الضرائب المفروضة على المستثمر الأجنبي ، وأنه قد أعلنت البنوك عن ارتفاع ملحوظ في التحويلات المالية للخارج ، والتي تفوق التدفقات النقدية التي تم الإعلان عنها. مع أخذنا بالاعتبار أن جلب المال بالنسبة للمشروعات الاستثمارية يكون في بداية المشروع ثم يستمر في كل عام بتحويل مبالغ مالية تفوق المبالغ التي تم إدخالها إلى المملكة إذا ما نظرنا إلى حجم السوق المحلي الكبير ، مما يدل على أن الفرح بحجم التدفقات النقدية هو فرح بسبب غير موصل للهدف المنشود ، وهو تحقيق مزيد من التقدم الاقتصادي والذي هو في أصله مزدهراً - بفضل الله - ، وتحسين البيئة الاستثمارية .
ثالثاً : لا يفهم مما سبق رفض فكرة فتح باب الاستثمار في المملكة ، ولاسيما أن هذه سياسة انتهجتها هذه الدولة المباركة – حماها الله – بفتح باب الاستثمار وجعله خياراً استراتيجياً لها ، وما ذاك إلا للمزايا التي يحققها الاستثمار المرتبط ارتباطاً وثيقاً بمستوى الأداء الاقتصادي، من خلال تنويع مصادر الدخل فيه ، وتوفير الفرص الوظيفية المتوسطة والجيدة والتي صرح بها وزير العمل بقوله إننا لا نرغب في سعودة الوظائف الدنيا والتي براتب يقل عن (1500) ريال ، إضافة إلى أهمية نقل التقنية وتوطينها ، فالحاجة ظاهرة إلى جلب التقنية الحديثة والخبرات الفنية ذات الكفاءة العالية ، فأين هي المشروعات الاقتصادية ذات التقنية العالية ، أو على أقل تقدير ذات أنصاف التقنية؟!من خطاب معالي رئيس الهيئة المجلجل ، أما أن يُصَرَّح لمشاريع استثمارية استهلاكية كسلسلة مطاعم ونحوها ، فهذه لا تضيف مكسباً للسوق السعودي ، فغاية ما فيها أنها أموال دخلت ثم خرج أضعافها دون أن تضيف شيئاً لاقتصادنا ، واقتصرنا في استفادتنا منها على الاحتفال بها أمام خبراء اقتصاديين يعلمون حقيقة الأمر ولا ينطلي عليهم مثل هذه الحقائق ، ونعود حيارى من حجب نجاحات العدالة في منجز يضاف لمطالب العدالة الناجزة..
نقلا عن الرياض