أذهلتني الباحثة الألمانية السيدة «أولريكه فرايتاج» وهي تتحدث عن مدينة جدة.. وتاريخ مدينة جدة.. الغابر منه.. والحاضر.. في اثنينية الأستاذ عبدالمقصود خوجة.. الأخيرة التي استضافتها كواحدة من أبرز المستشرقين المعنيين بدراسة الحضارة العربية والإسلامية والتركيز على تاريخ بعض «الأعراق» العربية الأصيلة..
** كما استرعى انتباهي.. قدرتها الفائقة على التحليل والاستنتاج والربط وتفسير الأحداث.. ووصفها لحدث تاريخي مهم وقع في مدينة جدة ، وقتل فيه العديد من القناصل والمقيمين الأجانب في وقت كان العثمانيون يديرون مقاليد الأمور فيها.. وقولها إن تلك المذبحة لم تحدث من قبل السكان تجاه ضحايا الحادث بتأثيرات عنصرية.. أو بدوافع دينية.. وإنما وقعت كنتيجة للتوترات السائدة في المنطقة والعالم في تلك الفترة.. وذلك - كما تقول الباحثة - لأن طبيعة الإنسان في هذه المدينة كانت متفتحة.. وحضارية ومستوعبة لقضية التنوع والتعددية الثقافية منذ الأزل.. بدليل وجود جميع الجنسيات فيها.. وتعايشهم مع بعضهم البعض.. وامتزاج حياتهم بصورة إنسانية باعتبار أن المدينة هي الميناء التجاري والسياحي الأول الذي كان يستقبل آلاف الحجاج إلى الأراضي المقدسة كل عام.. كما كان الكثير من الحجاج والوافدين يفضلون الإقامة والاستيطان بها مدى الحياة..
** أذهلتني وأسعدتني بهذه المعلومات المدعمة بالصور الموغلة في القدم.. وفي نفس الوقت فإنها أخجلتني كثيراً.. وأنا أستمع إلى تلك المعلومات المدهشة.. والاستنتاجات العميقة.. لأول مرة.
** وبالتأكيد فإنها أدهشت وأخجلت كل من استمع إليها في تلك الأمسية الجميلة من أبناء هذه التاريخية الجميلة من المولودين فيها.. لأنهم كانوا يجهلون مثلي تلك الحقائق والمعلومات، ولا يكادون يجدونها في أي مصنف صدر هنا.. وكتب بأقلام أبناء البلد ومؤرخين بمثل هذا الاتقان.. والدقة.. والحفاوة والاهتمام..
** وتلك مأساة حقيقية..
** بل وقصور علمي كبير.. يتحمل مسؤوليته مؤرخونا الأوائل.. ويشاركونهم فيه أكاديميونا من المتخصصين في علم التاريخ.. وقد كنتُ أتمنى ليلتها أن أرى أياً منهم في هذا اللقاء المهم وأسمع منه تعليقاً حول ما أوردته الباحثة العظيمة هذه وحول ما أولته من اهتمام لدراسة مدينتنا هذه..
** لكنني لم أجد فيهم أحداً.. وإن كنتُ قد وجدت من يمكن أن يقوم بهذه المهمة الوطنية نيابة عنا جميعاً.. وذلك من خلال جامعة عفت.. التي أبرمت وثيقة تعاون مع الباحثة المذكورة لتشجيعها على الاستمرار في دراساتها التاريخية للمملكة ومدينة جدة على وجه التحديد كما فهمتُ ذلك من الشيخ عبدالمقصود خوجة ومن مديرة الجامعة أيضاً..
** وحسناً ما فعلته جامعة عفت.. عندما احتضنت باحثة بحجم هذه الباحثة الكبيرة التي تدير أكبر مركز للأبحاث والدراسات العربية والإسلامية في بلادها.. والتي أذهلتنا جميعاً بلغتها العربية الفصيحة.. وبتمكنها أيضاً من عدة لغات حية أخرى.
** والحقيقة أن اثنينية أبي محمد سعيد تقدم ما لا تقدمه المؤسسات الثقافية الأخرى في بلادنا وبالذات في انتقائها للأشخاص الذين تكرمهم وتحتفي بهم وتقدمهم لنا.. وتصلنا بهم.. وتعرّفنا عليهم.. وتوثق صلة هؤلاء الباحثين والدارسين بتاريخنا وخدمة بلادنا.. وإعطاء الصورة الحضارية والعلمية الصحيحة عنها.. فجزاه الله عنا خيراً.. وكتب هذا العمل المتميز في موازين حسناته وأولوياته الكثيرة.. ونفع به هذه البلاد وأهلها.
***
نقلا عن عكاظ