من لايعي ما يعنيه مجلس التعاون لدول الخليج العربية، عليه أن يرجع بذاكرته للأزمات التي مرت على المنطقة، وكيف تعامل معها قادة دول المجلس، لقد كان الحزم والوقوف صفا واحدا مع أي دولة تتعرض لأي تهديد مفصلا مهما، يبين قيمة هذا المجلس ودوره السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي الرائد ليس فقط على مستوى الخليج العربي، بل على مستوى المنطقة العربية كافة فهو الكيان السياسي العربي الوحيد الذي تلتحم داخله عدة دول وتتخذ قراراتها السياسية والاقتصادية الخارجية بشكل موحد. ولعل ما أكده الاجتماع التشاوي الثالث عشر لقادة دول المجلس في الرياض يوم الثلاثاء الفائت يبين حضور هذا الكيان القوي وقت الأزمات، فهم صمام أمان يجب المحافظة عليه وتطويره. لقد عبر الجميع عن وقوفهم مع دولة البحرين، وهو أمر غير مستغرب، فقد وقفوا بقوة مع الكويت قبل عقدين، وغامروا بوجودهم من أجل تحريرها ونجحوا في ذلك. ولعل أحد الأمور المهمة في البيان الختامي، هو الاتفاق على أن تدخل قوة درع الجزيزة في البحرين نظامي وقانوني، وبموافقة القيادات العليا لدول المنطقة، الأمر الذي يقطع الطريق على من يريد أن يصطاد في الماء العكر، فهذا التوافق يلغي أي اتفاقيات أخرى تحصر دور درع الجزيزة في نطاق ضيق، فالقمة تؤكد شرعية تدخل قوة درع الجزيزة في اي دولة خليجية طالما أن قيادة هذه الدولة تحتاجها، فالأمر هنا لا يقتصر على الدفاع عن المخاطر الخارجية، بل إن أهم واجبات هذه القوة إحلال السلم وتأكيد الاستقرار والمحافظة على أمن دول الخليج ومكاسب شعوبها.
الوحدة هي مفتاح القوة، والأمان من تهديد الطامعين، فنحن أمام تحد حقيقي والتصريحات التي تطلقها إيران هنا وهناك والتدخلات التي تقوم بها فعليا تعبر عن نيات هذا النظام "الطائفي" السيئة التي تضمرها لدول الخليج والدول العربية بشكل عام. لقد عبر القادة عن "بالغ قلقهم لاستمرار التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية لدول مجلس التعاون من خلال التآمر على أمنها الوطني"، والقلق هنا يقتضي اتخاذ موقف صارم من هذا التدخل لا مجرد مسكنات، لأن مزيداً من الوحدة "العملية" يقطع الطريق على النظام الإيراني الذي يعاني من خلل كبير في تركيبته وإدارته الداخلية، ويود أن يقتنص أي فرصة لتصدير هذه المشاكل للآخرين. لقد أكدت الأحداث الأخيرة في بعض الدول العربية التي تربطها بإيران روابط "طائفية" أن النظام الإيراني يكيل بمكيالين وأنه لا يبحث عن "الحق"، فهو يدعي مناصرة الشعوب بينما يقمع شعبه بعنف ودون رحمة، وهو يدعي أنه يناصر الحق بينما يصمت هو وأذنابه عما يحدث في دول يعتبرها صديقة له. وبعد هذا كله يريد أن يقنعنا السيد أحمدي نجاد، أنه يريد صداقتنا وليس له أي مطامع في منطقتنا. لقد فعل القادة خيرا عندما وضحوا "طائفية هذا النظام" وعزفه المستمر على وتر هذا النغم النشاز، لأن شعوب المنطقة عبارة عن "موزاييك" متماسك لا تستطيع الطائفية أو أي شيء آخر أن يفرق أو يفكك هذا التلاحم التاريخي. هذا التأكيد هو أكبر رد على المحاولات العبثية التي يقوم بها النظام الإيراني الذي لن ينجح في أهدافه مهما حاول.
نحن أمام قمة تاريخية بكل ما تحمله من معنى، فدول الخليج تتحمل مسؤولياتها العربية بوضوح وعزم ولم تتخل عنها في يوم. الموقف الثابت من الأحداث العربية وترحيبها بكل ما من شأنه أن يحفظ الأمن والاستقرار ويعيد الحقوق العربية كاملة يبين بوضوح أن دول المجلس لا ترغب ولا تريد أن تتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، لكنها لا تقف متفرجة ومكتوفة الأيدي عندما يتطلب الأمر وساطتها، لأنها تعي المصير المشترك الذي يربطها بهذه الدول، ولعل اليمن من أهم الدول العربية التي ترتبط بدول مجلس التعاون بروابط تاريخية جوهرية، ومبادرة دول المجلس لحل الأزمة اليمنية غير مستغربة، بل هو واجب قام به مجلس التعاون، لأنه يعي أن استقرار اليمن يعني استقرار المنطقة بأسرها. مسألة اليمن شائكة، ونحن على يقين أن دول الخليج لن تتوانى أبدا عن نصرة اليمن والبحث عن كافة السبل من أجل أمنه واستقراره، والزيارات المكوكية التي قام بها الأمين العام لدول الخليج وقبله وزراء خارجية المنطقة إلى اليمن والمبادرات المتوالية من أجل حل الأزمة تؤكد الدور المتنامي لمجلس التعاون، هذا الدور ليس مستغربا على دول تملك أهم وأقوى اقتصادات في الشرق الأوسط وحققت خلال نصف قرن ما لم تحققه دول عربية وأجنبية في قرون.
ربما نستطيع أن نقول إن هذه القمة هي قمة المفاجآت، فطلب انضمام المملكتين الأردنية والمغربية يعني بشكل أو بآخر، أن مجلس التعاون لا يحصر نفسه جغرافياًً، بل لديه الاستعداد، طالما أن الفرصة مواتية، أن يتوسع ليشمل دولاً عربية أخرى، المعايير هنا ليست فقط مرتبطة بتشابه الأنظمة السياسية، وهذا أمر جوهري في أي توافق سياسي، بل كذلك يرتبط بما يمكن أن تسهم به الدول الجديدة التي يمكن أن تنظم إلى الوحدة الخليجية، ولعلنا نتعلم من درس الاتحاد الأوروبي الذي توسع بشكل سريع وضم له دول شرق أوروبا، الأمر الذي ينذر اليوم بانهيار اقتصادي كبير (ربما بدأ باليونان والبرتغال وأسبانيا وقد يمتد لدول أخرى)، حتى إن هناك دراسات تؤكد أن انهيار "اليورو" قادم لا محالة. إن فتح المجال لعضوية الأردن والمغرب، هو نوع من التمدد الهادئ، ففي نهاية الأمر الهدف الكبير هو "الوحدة العربية" التي لن تتحقق من خلال الشعارات بل من خلال العمل الجاد والهادئ الذي يضمن للوحدة الاستقرار والاستمرار.
المفاهيم الجديدة التي تطلقها هذه القمة التشاورية سوف تعيد تعريف معنى "مجلس التعاون لدول الخليج العربية"، فربما نشهد يوماً يكون فيه المسمى "مجلس التعاون للدول العربية" فتجربة دول الخليج، يمكن تعميمها على جميع الدول العربية إذا توفرت الشروط الملائمة لتطبيق هذه التجربة. ولنتذكر دائما أن الوحدة هي الهدف وهي الحصن الحصين لكل الدول العربية، خصوصا وأننا نشهد حالة من التحول غير المسبوق الذي تعيشه الدول العربية هذه الأيام. قبول انضمام الأردن والمغرب لدول مجلس التعاون يعبر عن هذه الحالة الذهنية الجديدة التي ترغب في تسريع بناء كيانات سياسية واقتصادية كبيرة، فما لا يدرك كله لا يترك جله، وإذا لم تتحقق الوحدة العربية الكاملة فلا بأس بوحدة عربية تكون متجانسة حتى لو كان تجانسها جزئياً.
نقلا عن الرياض