توشك الشمس أن تسطع فوق ليبيا بعد أكثر من ستة أشهر منذ اندلاع شرارة الثورة من بني غازي ضد «لا نظام العقيد القذافي» ، كما يوشك الصبح أن ينجلي في سوريا، بعد قرابة خمسة اشهر منذ اندلاع شرارة الثورة من درعا، ضد أول رئاسة بالوراثة في العالم العربي ،دشنت نموذجا حاولت العديد من الرئاسات العربية العتيقة استنساخه، بعضها لصالح ابنائه، وبعضها لصالح اشقائه، وبعضها الثالث لم يجد ايا من الابناء او الاشقاء للوراثة ففتش عن الأصهار من اقارب الزوجة للتوريث، غير أن مشيئة الله، وإرادة الشعوب ،أرادت شيئا مختلفا، فكان ما نراه على الساحة العربية بطولها وعرضها من حراك، تطور بعضه حتى اصبح ثورة ومازال البعض الآخر يحاول تطوير ادواته وضبط بوصلته، فيما امكن ببعض النضج وببعض الفهم، وببعض الاستعداد لتقديم بعض التنازلات البسيطة لجماهير غاضبة، احتواء ثورات غضب كادت ان تعصف بالاستقرار في دول عربية أخرى.
هذا باختصار حال المشهد العربي في اللحظات الراهنة، وبرغم ما قد يثيره المشهد العام من آمال، وما قد يبدو ملهماً فيه من تجليات، فإن حجم المخاوف أكبر، ومستوى المخاطر أعلى.. لماذا رغم ما قد يبدو من شفافية اللحظة الثورية وبراءة الثوار؟!..
بصراحة، فقد قلت في هذا المكان عبر أكثر من خمسين مقالا على مدى أكثر من عام، أن ثمة مأزقا – كان يبدو مؤجلاً- في العالم العربي، هو مأزق الدولة الحديثة، حيث غابت المنطقة العربية برمتها عن خارطة الدولة الحديثة في العالم على مدى قرون طويلة، وحيث بدا وكأن اللحاق بموضع قدم فوق تلك الخارطة قد يكون باهظ التكلفة بالنسبة لشعوبها وإداراتها معاً، إلى أن اندلعت الثورة في تونس ثم مصر ثم ليبيا ، فاليمن ، فسوريا.....، ما يحدث في تلك البلدان بالسياسة أو بالعنف، هو محاولة للتنقيب تحت ركام قرون طويلة، من أجل اكتشاف العلامة رقم واحد، في الطريق الى الدولة الحديثة، حيث تحل المؤسسات محل الأفراد، وحيث يعلو القانون فوق الجميع، وحيث يصبح الشعب هو مصدر السلطات.
وبسبب التناقض الحاد بين متطلبات الدولة الحديثة، وبين ما هو قائم ومستقر لدى أغلب شعوب الشرق، على مدى قرون طويلة،فإن العثور على العلامة رقم واحد لا يمكن أن يكون أمراً سهلاً، فهو يقتضي الكثير من التضحيات والكثير من الوقت، والكثير من الحفر والتنقيب تحت ركام زمان التسلط العربي لاستخلاص العلامة رقم واحد من بين جذور ثقافية وأخلاقية ودينية واقتصادية وسياسية عتيقة.
هذا التناقض الحاد هو أحد أهم أسباب الصراع الدموي الراهن في ليبيا وسوريا واليمن،على سبيل المثال، فهذا الصراع في أحد تجلياته هو صراع بين «سيادة الرئيس وبين سيادة الوطن»، إذ جرى على مدى عقود طويلة حتى في عهود ما قبل الجمهوريات الخلط بين الدولة وبين الحاكم،حتى بدا انتقاد سياسات الرئيس انتقادا للدولة وانتقاصا من سيادتها، وبسبب تلك «الوحدة العضوية المصطنعة» بين سيادة الرئيس وسيادة الوطن، أمكن في بعض المناطق اصطناع انقسام بين من يدافعون عن «سيادة الرئيس» باعتبارها سيادة الوطن، وبين من يريدون الفصل بين سيادة الوطن وبين سيادة الرئيس، حيث السيادة للوطن وحده ولا سيادة لسواه، ولهذا السبب ذاته استطاع بعض الحكام حشد من يوصفون بالبلاطجة في اليمن والشبيحة في سوريا والبلطجية في مصر وكتائب القذافي في ليبيا، لمواجهة من خرجوا يطالبون أولاً بـ»الإصلاح» وتالياً بـ»التغيير»، وأخيراً بـ» إسقاط النظام او سقوط الرئيس.
ولعل ثمة مفارقة مثيرة ومشينة في ذات الوقت، فتلك الفئة التي ترتدي ثيابا مدنية»plain cloth people» ويحملون العصي والهراوات وزجاجات المولوتوف الحارقة، وبعض الأسلحة الآلية في بعض الأحيان ، بالإضافة الى بعض أسلحة القنص، هم جيش سيادة الرئيس ، تلك الفئة تقاتل دوما الى جانب النظام الذي يثور عليه شعبه، فلم نسمع مثلاً بأن بلاطجة اليمن أو بلطجية مصر أو شبيحة سوريا قد خرجوا لضرب تظاهرات «حزبية» مؤيدة للنظام، ولم نر مثلاً بلطجية يتصدون لجماعة» آسفين يا ريس» التي اتخذت من ميدان روكسي قرب منزل الرئيس السابق حسني مبارك مركزا لحركتها، ولم نشاهد بلطجية يتصدون لمن يقال انهم مؤيدو مبارك في ميدان مصطفى محمود بالمهندسين، كذلك فلم نر الشبيحة في سوريا يتصدون لتظاهرات تأييد «سيادة الرئيس بشار»، وانما شاهدناهم فقط في ساحات الوغى يقتلون المتظاهرين المطالبين برحيل نظام جثم فوق صدورهم وكتم على أنفاسهم على مدى اثنين وأربعين عاماً، لا يراها البعض كافية للاقتناع بأن الوقت قد حان لتجربة نموذج آخر ورجل آخر وفلسفة عمل أخرى.بل ان الثورة ضد النظام في ليبيا قد راح ضحيتها قرابة خمسين ألف قتيل وجريح على مدى ستة أشهر،قتلهم المدافعون عن «سيادة العقيد»، وهكذا فالدفاع عن سيادة الحاكم في ليبيا وحده قد اقتضى التضحية بعدد يفوق مجموع من سقطوا ضحايا الصراع العربي الاسرائيلي على مدى اكثر من ستين عاماً.!!
اللافت أن أغلب الرؤساء ممن يدافعون عن «سيادة» الرئيس باعتبار أنها تجسد «سيادة الوطن»، يعرفون قبل غيرهم أن سيادات الأوطان في زمن العولمة تذوب كما يذوب الجليد تحت شمس أغسطس الحارقة،وأن الدول في زمن العولمة باتت تتخلص كل صباح من قطعة ملابس عزيزة عليها لحساب العولمة ذاتها، وخذ عندك مثلا بالغ البساطة، فألوان اشارات المرور وعلامات الطرق، هى جزء قديم من العولمة، لا تستطيع دولة ان تخالفها، بل إن تطعيم الأطفال ضد الحصبة والسعال الديكي وشلل الأطفال لم يعد عملا سياديا تملك اي دولة ترف مخالفته، وانما هى تلتزم به بموجب تعليمات منظمة الصحة العالمية، بل ان نظم التجارة والمصارف لم تعد هى أيضا مناطق تتصرف فيها الدولة بحرية، وانما عليها ان اختارت الانخراط في منظمة التجارة العالمية، أن تتجاوب مع معايير العضوية في تلك المنظمة، وفيها معايير أخلاقية، وأخرى تتعلق بحقوق الانسان على سبيل المثال. باختصار فإن سيادات الدول تتآكل كل يوم لحساب قيم العولمة، فيما يصر بعض حكام العالم الثالث على أن تكون لهم كأشخاص السيادة المطلقة فوق شعوبهم دون حسيب أو رقيب، ولهذا فإن بعض عوامل الغضب، وبعض أسباب الحركات الاحتجاجية والثورات ، إنما تكمن في فارق التوقيت بين بعض الحكام وبين شعوبهم، حيث تدرك الشعوب حقيقة السيادة التي تتآكل لحساب قيم العولمة، قبل أن يدركها بعض حكامهم.
بسبب هذا الصراع «المسلح أحياناً» بين سيادة الرئيس وسيادة الوطن، تبدو مخاطر التغيير في العالم العربي كبيرة، لكن بعض ما يجري انجازه من تحولات بالسلم او بالعنف في غير منطقة عربية يبقي على الآمال كبيرة بنفس القدر، ويبقى ان المؤكد من دروس التاريخ كلها هو أنه لم يحدث طيلة مسيرة الانسانية أن تغلبت سيادة الرئيس على سيادة الوطن.. هذا هو الدرس الحقيقي لما نراه في عالمنا العربي من حراك، لا يؤدي تجاهله سوى الى مضاعفة تكاليف التغيير، دون تأثير حقيقي على نتائجه ووجهته وربما حتى على إيقاعه.
نقلا عن المدينة