قرار السماح للمرأة بحق القيادة أحدث ردود فعل متنوعة، ففيما بعثت مشاعر تفاوتت ما بين ابتهاج وتفاؤل.. إلى سخرية وسخط خارجياً.. فإن المشاعر الداخلية - داخل الوطن - كانت أكثر تعقيداً، بحيث يحتاج رصد تلك الردود لـ«مبحث خاص» قد يكون مجالاً لمكان أكثر اتساعاً من هنا.
هنا سنتناول رد فعل محدد، وهو رد فعل فئة ممن يُعرفّون أنفسهم بـ«مناضلين». بدايةً نتساءل، أين المناضل؟ وهل يختلف موقع المناضل من الإعراب باختلاف الظرف والمكان والزمان؟ هل على المناضل أن يقف على مربع الشطرنج ذاته لا يغيره أبداً، فلا تسيره وتوجهه تحركات الآخرين طمعاً في انتصار أو خوفاً من هزيمة؟ هل على المناضل أن يكون كالفيل بلعبة الشطرنج يحسن التحرك للأمام وللخلف أيضاً بقفزات متتالية وسريعة ينعطف في آخرها ليفاجئ خصمه ويُحسّن فرص انتصاره؟
من الأقرب لتتلبسه حال النضال؟ أهو السياسي ممن تشغله إشكالات السلطة، أم الحقوقي الذي تشغله التباسات الحريات، أم المثقف ممن تثيره أفكار التغيير، أم الشاعر الذي يحلم بفضاءات تتجاوز واقعه، أم هو المتمرد ممن يمتلك شغفاً للفعل وللحياة.. أم لعله كل هذا بتعقيد أكبر من هذا؟ ولكن أليست الصور السابقة للمناضل جميعها شديدة البياض؟ ألا يمتلك المناضل، كما نحن، جانباً رمادياً؟ ألا يمكن أن يكون للمناضل أهداف أنانية يسعى لاغتنامها بنضاله؟ ألا يكون شخصاً ضائعاً لا يدري ما الذي يريده تحديداً؟ أو شخصاً ساخطاً كارهاً للواقع وللمحيط؟ مع التنويه أن حمْل المناضل للكره داخله لا يعيبه فلا «مسيح» بيننا، التوجس أن يكون هذا الكره هو مفتاح ومحرك لدى نمط محدد من المناضلين. مع احترامنا لمن تحركهم للنضال مساعٍ نبيلة، إلا أن الأحداث الأخيرة، إقرار حق المرأة لقيادة السيارة، قدمت نمطاً للمناضل يستحق التوقف وقراءة دلالة وجوده.
ما بين مبتهجين بالحدث لما يشكله من إمكانات لتغيرات إيجابية مستقبلية للمجتمع من جهة، ومن جهة أخرى لتخفيف جانب لمعاناة تعيشها الأسر بسبب الوضع السابق، وبين رفض على استحياء خوفاً من آثار القرار التي قد لا تتماشى مع المنطلقات الدينية المفترضة أو بسبب الاعتياد على الامتثال للفكر التقليدي لزمن طويل، ظهر صوتٌ ثالث مثير للاهتمام، صوت غالبيته كانوا من أكثر المطالبين بهذا القرار، معلنين أهميته للمجتمع ومتذمرين من الإجحاف الحاصل لنصف المجتمع جراء المنع السابق، هذا الصوت غلبت على تعليقاته بعد صدور القرار القاعدة البلاغية «القرار فيه كيت وكيت ولكن»، والـ«لكن» هنا قوية وإن على خجل، فهي لا تنطلق من رفض القرار، فلا مجال لرفض قرار ممن تصدّر المطالبة به، بل هي «لكن» اعتراضية بلا جزم ظاهر.
أصوات بدأت بالاشتغال على التشكيك في نية مشرّع القرار! وكأن هذا أمر يمكن اكتشافه عبر تغريدات تويترية أو كأنها هي القضية الكبرى هنا. من المؤكد أن الوعي بما وراء الأحداث وبدلالات الأحداث مهم لرصد وتحليل أفضل لكل مهتم بالشأن المجتمعي، ولكن التشكيك تم من خلال التركيز على نقطتين تبعثان على البؤس، حقيقة. الأمر الأول تشكيك يدور حول «توقيت القرار»، وكأن كشف خبايا التوقيت سيكشف عن المؤامرة الكونية المقامة ضد البلد والمواطن.
أما الأمر الثاني فتشكيك في «أسباب ودوافع اتخاذ القرار»، فمثلاً وجدنا من يؤكد أن القرار لم يتم اتخاذه لتمكين المرأة أو لإعطائها بعض حقوقها، بل تم لأسباب اقتصادية. هنا، لن نناقش صحة هذا التعليق فأمر كهذا لا يكشفه إلا مرور زمن على الأحداث لنستطيع تبينه.
السؤال هنا، ما الإشكال أن يكون للقرار بُعد اقتصادي؟ هل هذه تهمة لتوجه؟ أو أن القرار يخدم توقيتاً يحقق أغراضاً خفية. إن جزمنا بصحة هذين الافتراضين، فلعلهما في حال كهذه، كلا الافتراضين يخدمان صانع القرار ولا يدينانه كما يراد لهما. أن يُتخذ قرار ليخدم البلد اقتصادياً وأيضاً أن يكون للقرار توقيت يخدم أهدافاً سياسية «ما»، فهو أمر يدل على إدارة سياسية واقتصادية محنكة نقف لها احتراماً ولا يمكن وفق المنطق التحليلي المحايد اعتبار وجود أهداف سياسية واقتصادية لطخة سوداء تكشف مؤامرة خفية.
هنا، لا نحاول تلميع الحكومة، فلا قدراتنا تؤهلنا لذلك كما أن للحكومة وزارة للقيام بهذه المهمة، أي وزارة الثقافة والإعلام. ما يهمنا صدقاً، هم الناشطون والمهتمون بالشأن العام الذين لم يجدوا في قرار كهذا لحظة للاحتفال، بل على العكس مجالاً لإضافة بند جديد للسخط على البلاد والحياة.
هل يستحق الأمر هذا؟ أليس المهتم بالشأن العام يهدف لجعل الحياة أفضل. فلماذا حين تقدمت الحياة هنا، خطوة واحده للأمام بما هو أفضل للمجتمع، بل وقد يراها آخرون وأنا أحدهم لا كخطوة بقدر ما هي قفزة كبيرة، في المقابل لم يجد هؤلاء فيها أمراً يستحق التوقف ابتهاجاً. هل يخيفهم الانتصار؟ هل يعني الانتصار زوال مشروعيتهم بالاحتجاج بـ«الكره»؟ وكيف يعرفون الاحتجاج في حال كهذه؟ أهو موقف صلب ينطلق من نقطة «ما» لا يحيدون عنها في موقفهم الرافض؟ وحتى نكون عادلين رفضهم ينطلق من رفض لسلطة ولحكومة لا تحقق طموحاتهم في مجتمع مدني ديموقراطي وهذا لا خلاف عليه، ولكن حين تتحرك الحكومة التي يعارضون بخطوة إلى الأمام لماذا يصر المناضل على البقاء في مكانه؟ أهو موقف نفسي ينطلق من عدم الثقة بالآخرين يُحركه شعور داخلي متجذر بهزيمة وانكسار نفسي، أينطلق تشكيكه بصدقية وحسن نية صانع القرار من موقف سلبي من الآخر، أم هو تشكيك في أحقيته وقدرته الذاتية بالتزامن مع تشكيك بصانع القرار للعمل يداً بيداً على خلق عالم أفضل؟
ليس مطلوباً من الناشط الإعجاب بقرار حكومي، ولكن على الناشط أن يمتلك قراءة للأحداث انطلاقاً من حب وأمل بغد أفضل، لا تعنتاً وكرهاً لواقع لا يرضينا جميعاً. بلادنا وواقعنا يخبراننا أننا كما نحتاج إلى السياسي الراغب بالإصلاح كذلك تحتاج إلى الناشط الذي يمتلك عيناً بعيدة عن الأحداث، لكنها حادة في دقة نظرها، تحلل الأحداث انتقاداً لإمكانٍ أفضل للتحسين، ألا نحتاج على سبيل المثال في لحظات انعطاف تاريخي يشهده مجتمعنا إلى من يقدم لنا قراءات تفتح لنا باباً لطرق جديدة لكيفية مساعدة من لا يتقبل قرار كهذا أو من لا يستوعبه أو من لا زال مرتبكاً في عملية التحول، بحيث نضمن تحولاً سلمياً على مستوى المجتمع والأفراد؟
المناضلون في مرحلة التغيرات الكبرى، كما يحدث الآن، وجودهم أساسي ومهم لتغيير بنّاء، تغيير يتشارك فيه الجميع، فرؤية تنطلق من زوايا متعددة للنظر أكثر بصيرة ودقة. صوت المناضل المتفائل بالتغيير والواثق من إمكانات مكانه وزمانه وبشره هو ما نحتاجه، لا من لا يرى إلا الهدم طريقاً للتغيير.
هند السليمان
* كاتبة سعودية.