لا أنكر أنني في الفترة الأخيرة مهتم بقراءة التحولات الاجتماعية والثقافية التي يعيشها مجتمعنا وأحاول قدر الإمكان أن أفهم وأستشرف ماذا ستكون عليه هوية المجتمع وهويتنا الثقافية بشكل عام خلال الأعوام القادمة، وغالباً لا إجابة لأسئلة مهمة تتركز في الأهمية التي دائماً نعطيها للهوية، وهل هذا الاهتمام مستحق أو هو جزء من "الوهم" الذي غالباً ما يتشبث به الناس من أجل تحديد مواقعهم ضمن المجتمعات الإنسانية.
الأسئلة دون شك مهمة لكني أربط الهوية الحقيقية بالتحول الاقتصادي أو أنني أرى أن أي تغير اقتصادي سواء سلباً أو إيجاباً هو الذي يخلق الهويات الثقافية والاجتماعية وليس العكس، لذلك نرى أن الحوارات الرئيسة حول هوية العالم في النصف الأول من القرن العشرين حول الاقتصاد ورأس المال وتوزيع العمل وشكل هذا الحوار مجمل الفكر الإنساني خلال المئة سنة الأخيرة، في اعتقادي أن التفكير في الهوية من خلال فهم التغير في المنظومة الاقتصادية هو فهم "عملي" للهوية يمكن أن يتحول إلى برامج عمل لبناء شخصية الإنسان السعودي.
إذا ما أردنا أن نصنع مجتمعاً "براغماتياً" عملياً يؤمن بالعمل الجاد والتنافس في بناء الخبرات، فنحن بذلك نريد أن نصنع هوية المجتمع بهذه الصورة "البراغماتية" وهذا لا يحدث بمجرد الأمنيات وطرح الأفكار، بل بإعادة هيكلة توزيع العمل في القطاعين الحكومي والخاص والتركيز على المشروعات الكبرى التي تساهم في التحول الاقتصادي الحالي لبناء جيل يعي قيمة الإتقان في العمل، لن أقول إن هذه المشروعات يجب أن تكون هي المختبر لبناء الهوية البراغماتية العملية للمجتمع السعودي ولكن يجب أن نوظف هذه المشروعات للخروج من المأزق الثقافي التقليدي الذي لا يعطي للعمل - أي عمل - الاهتمام الذي يستحق، وكذلك الخروج من "أبوية" الدولة والفطام من الاعتماد عليها في مسألة توفير فرص العمل المباشر، وأقصد هنا التوظيف الحكومي المباشر.
لن أبحث عن الأحلام وأقول إنه يمكننا بسهولة إحداث هذه النقلة في الذهنية السعودية نحو مسألة التنافس في العمل وإحداث تحول يعتمد على الكفاءة والقدرة على الإنجاز بدلاً من الاعتماد على الشللية والقبلية، فمثل هذه النقلات لا تحدث بشكل عاجل وقد تتطلب جيلاً أو بعض الوقت، ولكن من الضروري البدء الآن في التفكير بمنهجية اقتصادية شفافة تركز على مصلحة الاقتصاد لا مصلحة الأفراد، هذه هي الطريقة الوحيدة للانتقال إلى المجتمع "البراغماتي" الذي ينظر للمنجزات والنتائج لا لمجرد تسيير العمل دون تغيير اقتصادي حقيقي. هذا هو التوجه الوحيد الذي يمكن أن يصنع خبراء سعوديين حقيقيين في كل المجالات، لا خبراء وهميين نالوا هذا اللقب لمجرد أنهم حصلوا على مناصب وفرص عمل لا يستحقونها.
إحدى الملاحظات التي توقفت عندها كثيراً هي أن أغلب المستشارين والخبراء وحتى مجالس الإدارة للمشروعات الكبيرة في المملكة يحتلها غير السعوديين. هذه الملاحظة جعلتني أفكر في إمكانية أن يساهم التحول الاقتصادي في إحداث تحول حقيقي في ثقافة العمل ويساهم في بناء الشخصية العملية للإنسان السعودي، ووجدت أن المعضلة أن "ذيول" الثقافة القديمة التي تشكل على ضوئها توزيع العمل وهويته خلال العقود السابقة مازالت تهيمن على عملية الاختيار وتوزيع الفرص للشباب السعودي المتحمس والمستعد لخوض التجربة العملية الحقيقية وبناء جيل من الخبراء السعوديين في المستقبل القريب. ويبدو لي أن ذيول الثقافة القديمة مازالت محافظة على الجدار التاريخي الذي عزلت فيه نفسها عن الشعور بالمسؤولية الوطنية لبناء الشباب السعودي والمساهمة في تغيير ثقافة العمل لديهم والركون إلى الخبراء الأجانب لتعزيز هذا الفصل المقصود الذي يحمي مصالح مجموعة قليلة على حساب عامة المجتمع.
أعود لعلاقة الاقتصاد وتحولاته بصناعة الهوية الحقيقية للمجتمعات فغالباً ما تتشكل شخصية الأفراد والمجموعات من خلال نظام العمل الذي يكسبون من خلاله معاشهم، وغالباً ما تظهر الخصائص الثقافية من تكرار أنماط العمل اليومي الذي يحدد أسلوب الحياة ومنها تتشكل مجموعات الفكر وتتقارب، وتتشكل المجموعات الأخرى في المجتمع. ما أودّ أن أؤكد عليه أن البحث عن مجرد الهوية في معناها العاطفي هو مجرد وهم لا يشكل قيمة عملية على أرض الواقع، بل إن ما يحدث الفرق هو كيف تتشكل ثقافة الأفراد وكيف تبنى نظراتهم وثقتهم في أنفسهم وكيف تتشكل الروابط داخل المجتمع الكبير يصبح هذا المجتمع حاملاً لبذرة التنوع الإبداعية، كل هذا يتحقق من خلال ثقافة العمل التي تجمع الناس وتحدد تفضيلاتهم ورغباتهم.
نقلا عن الرياض