الجموع الجماهيرية غالبا ما تجنح نحو تحقيق آمالها وتطلعاتها في حياة أفضل، وهو مشترك بين كل الأطياف البشرية سواء تلك التي حظيت بذلك أو تلك التي مازالت تبحث عنها ولذلك تحاول أن تخلق معنى لما تفعله في علاقتها اليومية مع الحياة والمصير على اعتبار أن هناك قلقا عاما لدى الجنس البشري من المصير، ولذلك تغرق الجماهير كثيرا في التعلق بالرمزية الفكرية كنوع من إعطاء معنى، وقيمة للحياة وللوجود بشكل عام، وغالبا ما كانت هذه الرمزية تتداخل مع المقدس في الوجدان الجمعي؛ بل يمكن القول: إن التفكير الميتافيزيقي هو التفكير الأكثر هيمنة على الفكر الماضي والحاضر على السواء، حتى لو كانت تلك الميتافيزيقيات من نوع الطوباويات البشرية التي تحققت بعد ما سمي بالأنوار أو الحداثة، فضلا عن تلك التي لها تماس بشكل مباشر أو غير مباشر مع الرمزيات المقدسة لدى الناس.
هذه الرمزيات تمنح شيئا من الرضا الجماعي عن الذات، وتحاول التخفيف من القلق الوجودي الذي هو متأصل في أسئلة الإنسان عن هذه الحياة منذ الطفولة الفكرية أو الطفولة البشرية؛ خاصة لدى تلك الذوات التي تعيش قلقا وجودا كحالة من حالات القهر، والذي يولد السؤال عن الأصل والمصير والمآل، وتزداد هذه الأسئلة كثافة مع هيمنة الكثير من أشكال التسلط على العقل والإنسان.
وبطبيعة الحال، فإن إشكاليات القهر والتسلط والهيمنة تولد لدى غالبية الناس حالات ثلاث:
الأولى: التماهي مع التسلط والهيمنة، فيتبنى المقهور كل قيم من يمارس القهر، أي أنه يتبنى قيم قاهريه.. والحالة الثانية: التوتر والقلق والتسلط على الآخرين بحيث يسقط المقهور إشكاليات قهره على الآخر، فتصبح كل مشاكله الثقافية والاجتماعية والدينية هي صنيعة الآخرين الذين يريدون سلخه من قيمه التي تربى عليها.. والحالة الثالثة: هي العنف الرمزي، بمعنى تصعيد حالات الاحتقان بحيث تصل درجات العنف أقصى مداها سواء كان عنفا لفظيا أو عنصرية فكرية أو مذهبية أو طائفية أو ربما يصل إلى التصفيات الجسدية.
ولعل مفهوم «العنف الرمزي» يأخذ معناه من تداخل المساس بالمقدس لدى الناس أو الرموز الدينية أو التاريخية أو حتى القومية والوطنية مع حالة القهر والهيمنة الفكرية من خلال هيجان عام يأخذ في التصاعد كلما اقترب الإنسان من حالة الترميز الديني كونه ترميز له أبعاده الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية أحيانا؛ لذلك يولد ذلك المساس عنفا رمزيا يفجر كل حالات القهر الديني والاجتماعي والسياسي بحيث يتحول الغضب من حالة طبيعية إلى حالة أكثر عنفا، فالقضية ليست دينية خالصة بدليل عدم التزام الكثير من الناس بتفاصيل الدين أو الاهتمام بفهم تعاليمه حتى في أبسط قضاياه، بقدر ما أن هذا المساس يعود في الأصل إلى مساس في الهوية الجامعة التي هي السقف الرمزي للناس.
إن الهيجان الديني لدى الجماهير العريضة من خلال عنفها الرمزي ليس من الضرورة أن يكون هيجانا من أجل غضبة دينية حقيقية كما يظنون، بقدر ما أنها تفجير لكل المكنونات والمكبوتات وحالات القهر والهيمنة التي مورست على الإنسان في قمع ذاته الفكرية وتساؤلاته الوجودية منذ الصغر، وعلى مدى القرون التي عاشها الإنسان.
نقلا عن عكاظ