عفواً على طلب العفو من القارئ الكريم قبل أن أبدأ المقال، إني أعتذر عن خروجي على تقاليد الكتابة الموضوعية، ليختلط الشأن الخاص بالعام، رغم أن بعض النظريات الاقتصادية تجيز إحلال القطاع الخاص محل العام، على مستوى تخطيط الحكومات، ما دام الهدف يصب في مصلحة التنمية، أفلا يسعني هذا إذاً على مستوى تخطيط مقال، ما دام الهدف يصب في مصلحة المعرفة؟!.
تخيلوا معي الانتلجنسيا السعودية، وهي تأكل في بعضها، متناسية أن كل أطيافها، على اختلاف مشاربها وتوجهاتها تشكل ما يسمى (القوى الوطنية) والتي يصبح المجتمع بدونها، بلا طعم أو لون أو رائحة، وترجمة الطعم واللون والرائحة على أرض الواقع، هي في أن المجتمع بدون هذه (القوى الوطنية) يفقد امتيازه الحضاري ليصبح شيئاً يشبه كثيرا رواية جورج أورويل (1984م) والتي تحكي تحول الناس إلى مجرد أرقام، ليس لدى هذه الأرقام في دولها أي أحلام أو طموحات تحت حكم شمولي، لتتحول القيم البشرية إلى أشياء هامشية، فيصبح الناس بلا مشاعر أو عواطف، بلا طموحات أو آمال، بل آلات يأكلها الخوف ممن يراقبها على مدار الساعة.
قد يسأل سائل: وما هي (القوى الوطنية) التي تخاف عليها كل هذا الخوف وتترافع عنها، وتنبهها على أن لا تأكل في بعضها؟! باختصار شديد: لا يوجد عندي قائمة بهذه القوى الوطنية، ولكن مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في بداياته جمع هذه (القوى الوطنية) على مختلف مشاربها تحت سقف مجلسه، للحوار البنَّاء لا للجدل الهدَّام، وفتح لها الملك عبدالله ـ حفظه الله ـ أبوابه، ورحب بها ليكون كالشمس التي لا تستثني أحدا بنورها، باستثناء أصحاب المغارات والكهوف، فلا حيلة للشمس فيهم، فأعانهم الله على أدرانهم، وبكتيريا الظل التي ارتضوها لأنفسهم، وهي تفتك بهم.
إذاً كيف تأكل الانتلجنسيا نفسها ممثلة فيما نسميه (القوى الوطنية)؟ تأكل القوى الوطنية نفسها، عندما تتحول قضايا الوطن الكبرى، إلى انشغالات الصراع، على قضايا الهامش الوطني، التي يعلم المبتدئ في فك حروف علم الاجتماع السياسي، أنها من ذلك النوع الموصوف بأن العلم به لا ينفع، والجهل به لا يضر.
تأكل (القوى الوطنية) بعضها، عندما تصنع لبعضها مكارثيات/ محاكمات تناسبها، والمحاكمات المكارثية كما نعلم تعشق التعميم وتكره الاستثناء، فالكل في عقيدتها متهم بلا تهمة إلى حين البحث عن إدانة!!، وليس العكس، فما الذي بقي من الوطن؟!، فيا أيها المكارثيون في كل منعطف سياسي، قليلاً من التواضع المعرفي، والحس الإنساني لمن يشارككم نفس الأرض، ونفس الهواء ونفس التاريخ على هذه الأرض، وكفوا عن مكارثياتكم التي شغلتكم عن الوطن بقضاياكم الفئوية، بدلا من أن يشغلكم الوطن بكل أطيافه عن قضاياكم الفئوية، وفي الحقيقة أن هناك تفسيرا واحدا ووحيدا لمثل هذه المكارثية التي تصنعها القوى الوطنية لبعضها عند كل منعطف، فإن كانت التحولات الدولية باتجاه اليسار، رأيت مكارثيي اليمين يقيمون محاكماتهم ضد التوجهات اليسارية، وأن لها أجندات خارجية، وإن حصل تحول عالمي باتجاه اليمين أقام رجال اليسار ما فعله اليمينيون من مكارثية. أقول إن هناك تفسيرا واحدا ووحيدا لمثل هذا السلوك الذي يضج به فضاء الميديا والسايبر، إنها الطفولة السياسية، وهذا ما جعل القيادة تستحدث مركزاً للحوار الوطني بحثاً عن نضج هذه القوى، بدلاً من صراع تيارات لا رشد فيه، يبحث كل تيار في هذا الصراع، عن جنازة يشبع فيها مظلوميته الخاصة للطم الخدود وشق الجيوب، ولا أستثني أحداً من القوى الوطنية برموزها وعشقهم لصنع مناحتهم وإنتاج منظري المناحة، و في معرض الكتاب أمثلة لهذا التنظير النواحي تجدها في بعض مؤلفات السعوديين، بأوجه مختلفة، وإن كان هناك ما يشبه الإجماع في كل هذه المؤلفات من معظم الأطياف على كراهية الغبار.
بقي سؤال أخير: أليس فيما كتبته مزايدة على القوى الوطنية؟ أليس فيما كتبته وصولية وتسلق على أكتاف المخلصين من كل هذه (القوى الوطنية) ممن بذل بعضهم شيئاً من سنين حريته في سبيل مبادئه؟ ألا يستحق كثير من هذه الرموز التقدير والاحترام بدلاً من لعبة اليوتوبيا اللفظية في هذا المقال؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال المتلون بأكثر من وجه، لا بد أن نذكر بكل الإجلال والتقدير كل الرموز التي ناضلت من أجل مبادئ قاومناها في البداية وأتى الزمن ليثبت صحتها ويزيد مصداقيتها رسوخاً في عقولنا وواقعنا، رحم الله عبدالله عبدالجبار، رحم الله عبدالكريم الجهيمان، رحم الله كل من تشرفنا بمعرفة تاريخهم، ورحم الله من لم نعرفهم لضعف تدويننا وقصور اطلاعنا.
بقيت الإجابة على السؤال فأقول: نعم... كل ما تضمنته الأسئلة من تعريض غير مباشر صحيح، ففيما ذكرته شيء من المزايدة والتسلق وغيرها من عقد الأنا المتأزمة، والسبب بكل بساطة يكمن فيما ذكره كارل ياسبرز عندما قال: "إن الفكر عند انعدام حرية الإنسان الراهنة، يستمد من العدم لعباً، للاشيء، ويمضي المرء في حياته، بصورة جانبية، دون مسؤولية، والشخص يساق بشيء لا يرجعه إلى نفسه، بل على العكس يستهلكه، فالإنسان يكون ـ إن صح القول ـ خارج ذاته، إنه يرتدي حللاً غريبة عنه، ويتكلم لغة العرَّاف (الغنوص)، أو الخيال الُمحَال (يوتوبيا)، ويشتد استمساكه بهذا اللعب، كلما عظم يأسه، من جراء انخلاعه، وتنازله عن ذاته" انتهى. هل كنت ألعب في هذا المقال بمعايير اليوتوبيا؟ ربما.. ولا أستطيع الجزم بذلك... لكني قطعاً متأكد من مدى انخلاعي وتنازلي عن ذاتي، في الكثير جداً من أمور حياتي.
نقلا عن الوطن السعودية