الدولة المدنية اصطلاح كالشعار, وشعار كالاصطلاح, لجأت إليه النخبة الثقافية المصرية, بعد أن رأت ما فعلته جماعات الإسلام السياسي في أفغانستان,
وقبلها باكستان وإيران, وأخيرا ما رأت من آثاره المدمرة في السودان التي انتهت بها تيارات الإسلام السياسي إلي انفصال الجنوب عن الشمال خصوصا بعد غياب التسامح الديني وتصاعد درجات العنف, وأتصور أن اختيار اصطلاح الدولة المدنية كان اختيارا موفقا واحترازيا في آن, وذلك علي الرغم من كل ما قيل من أن الإسلام لم يعرف الدولة الدينية كما عرفتها أوروبا, وأنه دين مدني
ولذلك فالإسلام, حتي من قبل صلح الحديبية, وفي نصوصه وتعاليمه في آن لم يكن سلطة دينية كما كانت سلطة الكنيسة. ولذلك أكد الإمام محمد عبده أن الإسلام هدم بناء السلطة الدينية ومحا أثرها حتي لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم, فالإسلام لم يدع لأحد من أهله (ولا ممن يزعمون الوصاية عليه) سلطة أن يحل ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء, وكان محمد عبده يقول هذه الفكرة في سياق اجتهاده الذي لا يزال صالحا هاديا كما رآه بمثابة أصول خمسة للإسلام. أولها: النظر العقلي لتحصيل الإيمان, وثانيها: تقديم العقل علي ظاهر الشرع عند التعارض. وثالثها: البعد عن التكفير. ورابعها: الاعتبار بسنن الله في الخلق. وخامسها وآخرها: قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها
وكانت العقلانية هي مبدأ الإمام محمد عبده في صياغة هذه المبادئ التي كانت تبرر وجود دولة مدنية حديثة بالفعل, دافع عنها الإمام محمد عبده, مؤكدا أن الإسلام دين العلم والمدنية, وذلك علي نحو ما ذهب إليه, في جداله الشهير مع فرح أنطون سنة 1902 قبل وفاة الإمام بثلاث سنوات, وقبل أن تعرف مصر ظهور جماعة الإخوان المسلمين بست وعشرين سنة علي وجه التحديد, وبالتأكيد, كان محمد عبده يعرف أن السلطة الدينية هي نقيض السلطة المدنية, وكان رفضه للسلطة الدينية يعني دعمه للسلطة المدنية التي هي حكومة مدنية لا تتباعد في التحليل النهائي عما نسميه الدولة المدنية, ولم يكن محمد عبده بعيدا عن فكر أستاذه جمال الدين الأفغاني الذي استخدم التقابل نفسه, لكن في التمييز بين ما سماه السلطة الزمنية والسلطة الروحية, موكدا أنه إذا سار الدين في غايته الشريفة, حمدته السلطة الزمنية بلا شك. وإذا سارت السلطة الزمنية في الغاية المقصودة منها, وهي العدل المطلق, حمدتها السلطة الروحية وشكرتها بلا ريب. ولا تتنابذ هاتان السلطتان إلا إذا خرجت إحداهما عن المحور الملازم لها, والموضوعة لأجله.
وأعتقد أن هذا التأسيس الذي وضعه الإمام محمد عبده, متابعا أستاذه الأفغاني ومضيفا إليه, هو أحد الأصول المهمة التي نبني عليها, اليوم, اجتهادنا في فهم الدولة المدنية والدعوة إليها بادئين من مشاكل زمننا وتعقد أحواله, وتراكم الإنجازات المعرفية القادمة إليه من كل صوب وحدب, والفاعلة فيه بالسلب والإيجاب في آن, وذلك من قبل أن يصرخ ثوار التحرير, هاتفين مدنية.. مدنية في مواجهة شباب تيارات الإسلام السياسي الذين هتفوا: دينية.. دينية, ولا أعرف علي وجه اليقين, هل كان التيار المدني من الثورة يدافع عن حلمه في دولة مدنية حديثة ليست عسكرية ولا دينية, أم أنه كان يتصدي لهتافات شباب الإسلام السياسي الذي لا يزال قادته يحلمون بدولة دينية إقليمية, تكون نواة لإحياء حلم الخلافة. لكن ما أعرفه أن الحضور الطاغي للقوي المدنية في التحرير هو الذي أجبر جماعة الإخوان التي دخلت ميدان الثوار, رسميا بعد خمسة أيام من انفجار الثورة, علي تقديم مشروع حزب مدني ذي مرجعية إسلامية. وكانت هذه هي المرة الأولي التي يتبني فيها الإخوان المسلمون إنشاء حزب, يهدف إلي تأسيس دولة مدنية, ذات مرجعية إسلامية, وقد مرت الأشهر وتقاربت جماعة الإخون مع المجلس الأعلي للقوات المسلحة, وفرضت علينا بالتعاون معه البدء بانتخاب مجلسي الشعب والشوري بدلا من البدء بالدستور أو إعادة صياغته, وهو الأمر البدهي في زمن ثوري مختلف. وتكررت الأخطاء نتيجة الخطأ الأول, وتلاحقت الأحداث, فاحتل الإخوان والسلفيون مواقع الأغلبية من مجلسي الشعب والشوري. وانتهي الأمر بوصول حزب الحرية والعدالة إلي سدة الحكم, وأصبح محمد مرسي رئيسا للجمهورية. ولا بأس من القبول به, ومن الضروري مساعدته علي النجاح ما ظل منفذا لما وعد به في أثناء حملته الانتخابية, فهذه الوعود هي ميثاق دعمنا له وتأييدنا إياه, ما ظل رئيسا لكل المصريين, وليس ممثلا للإخوان المسلمين الجماعة أو الحزب. وقد دخلنا أول المآزق الحاسمة في زمنه, وهي أزمة تبدأ من محاولات فرض عدد من المتأسلمين ما يتصورونه إسلامهم الأصح علي غيرهم, فحدثت مطاردات للفتيات السافرات, في موازاة التدخل في الحريات الشخصية بما أدي إلي مصرع شاب السويس.. وتصاعدت الوقائع, ووصلت إلي درجة التهجم علي القضاء, وعدم الاعتراف بحكم المحكمة الدستورية لحل مجلس الشعب. وكانت حجة مؤيدي عدم احترام القوانين وأحكامها وهما مؤداه أن الشعب مصدر السلطات, وهي كلمة حق يراد بها باطل, فالشعب لا يحكم نفسه بنفسه وإلا تحولت الحياة إلي فوضي, وعدنا إلي زمن الغابة, وإنما يحكم الشعب نفسه بواسطة مؤسسات ثلاث: تشريعية, وقانونية, وتنفيذية, شريطة أن يكون الفصل بين هذه السلطات أساسيا, ولا تتدخل سلطة في عمل أخري حتي لا يختل التوازن بين السلطات التي تظل السلطة القضائية في علاقاتها بمثابة البوصلة الهادية التي تحرس الدستور, وتعمل وفقا للقوانين المنبثقة منه.
والحق أن أزمة إبطال حكم المحكمة الدستورية التي قضت بعدم دستورية مجلس الشعب, رغم كل محاولات تبريرها أو المراوغة في المخايلة بصوابها تدل علي عدم احترام أحكام القضاء من ناحية, وتدخل أعلي سلطة تنفيذية في عمل السلطة القضائية من ناحية موازية. وهو أمر يخل بمبدأ التوازن بين السلطات, ويشير إلي أن الرئيس المنتخب قد نسي في غمرة السلطة أنه رئيس لكل المصريين, وجعل من نفسه بهذا الفعل ممثلا للإخوان المسلمين علي وجه الخصوص, وتيار الإسلام السياسي علي وجه العموم, وهو موقف يدفعنا إلي معاودة السؤال عن الدولة المدنية الحديثة التي كنا ولا نزال نحلم بها بوصفها خلاصا لنا, خصوصا أن احترام القانون هو ركن ركين من أركان الدولة المدنية الحديثة, وهو ركن يوازي ضرورة عدم استئثار فئة حاكمة بكل شيء, حتي لو استغلت قدرتها التنظيمية والمالية كي تحشد المليونيات, وتجعل منهم وسيلة ضغط وإرهاب مباشر أو غير مباشر للقوي الوطنية الأخري, فنعود إلي زمن مبارك وسطوة الحزب الوطني التي أسقطت الصفة المدنية عن نظام الحكم السابق رغم تظاهره بأنه حكم مدني, فالدولة المدنية الحديثة بقدر ما هي نقيض الحكم الديني أو تديين الدولة, هي في الوقت نفسه نقيض دولة الاستبداد التي تتحول إلي دولة بوليسية بامتياز. وهو موقف يدعو إلي إعادة تأسيس مفهوم الدولة المدنية التي نحلم باكتمالها وتحديثها, ما ظل حلمها بعيدا عن التحقق ويزداد بعدا فيما يبدو.
نقلا عن الاهرام