المفكر هو الذي ينقلك من واقع القصة وأمكنتها وأزمنتها وأحداثها وشخوصها إلى الروح المختبئة خلف سطور النص، ينقلك إلى الأخيلة الكامنة وراء أفق أحداثها ودلالاتها ورمزيتها، بمعنى أنه يستخدم قدراته الفكرية وخياله الواسع وملكاته وذكائه وألهامه بطريقة مهنية متجددة وعميقة في مواءمة ذكية مستخدماً ما يُعرف" بالعصف الذهني" وهي أعلى درجات الإلهام الحسي الذي ينفذ إلى أعماق الأشياء فيرى ويسمع ويدرك مالا ندركه بحواسنا العادية الغير ملهمة فيعبر عن أشياء أقرب لكل النفوس حتى يظن البعض حين يقرأها أنه يحاكي أعماقه وأنه يتحدث عن أدق تفاصيل أسراره بما يُعرف بنظرية "الأستبصار" في علم النفس، وهناك من يفكر متمحوراً حول ذاته فلا يحاكي إلا نفسه ويكون أقرب للكاتب من المفكر وما أكثرهم في هذا الزمن على أرفف المكتبات المنسية، وبالتالي فإن الفرق بين الكاتب والمفكر هي قيمة فكرية تستنطق صمت النص وتجسد روحه ومعانيه بتلقائية دون الإغراق في الذاتية السردية وترك ما وراء النص للغة الصور والأخيلة التي يعيشها المتلقي، يسمعها ويراها ويعيشها ويتحدث معها ويقرأها ويتفاعل معها بتلقائية دون تكلّف أو افتعال وبالتالي فليس بمقدور الكاتب أن يكون مفكراً إلا إذا توفرت له هذه المعطيات والصفات الروحية والملكات الحسية بكل تجلياتها الفكرية وتفاصيلها الوجدانية والعاطفية وإستشعاراتها الروحية وأخيلتها الخلاقة مع قدرة خارقة على البحث المستمر والقراءة الدائمة وتكوين مخزوناً معرفياً يثري الفكر بالمفردة وبتعدد بدائل تحرير النص.
وبالتالي نصل إلى قناعة مفادها أن المفكر هو الذي يبحث عن الحقيقة الغائبة وحين يجدها ينقلها بأمانة ومصداقية حتى وإن كانت لا تتوافق مع قناعات ورغبات المتلقي، يعرضها له ويدعه يتأملها ويكوّن رأيه وانطباعه عنها ولا يصطنع من الوهم حقيقة متوائمة ليقنع بها الآخرين، أما الكاتب في عصرنا الحاضر فينقصه التأمل الجميل الذي يجعله يرى الجوانب المشرقة للحياة ويعرضها بطريقة مشوقة ومنسجمة مع ذلك الأمل المنسكب مع ضوء الصباح والمتلبس بندى الفجر لهذا حين نزور أحد معارض الكتاب ونتصفح إصداراته نشعر بالملل ولا يجذبنا منها سوى العناوين التي لا تعكس المحتوى أو رواية مترجمة، ربما أننا نفتقر إلى الأبداع الحقيقي الذي لا يكمن في بنيوية الجمل المعقدة بل يكمن في قدرتنا على إيصال مكنوناتنا الداخلية للمتلقين عبر أقصر الطرق وأسهلها وأيسرها لفهمهم على مختلف مستوياتهم الفكرية والثقافية والتعليمية وذلك من منطلق مفهوم وقناعات أن الثقافة تكمن في أن تسمع أكثر مما تتكلم، وأن ترى أبعد من الأفق وأن تقرأ بعدد حروف ما تكتب وأن تؤمن بحق الآخر في الاختلاف معك وأن الحياة تتسع للجميع، وبين هذا وذاك نجد أن المفكر المبدع، هو الذي يحافظ على نسق ابداعه ونصاعة فكره وحسن مقاصده، وجعلها في سياق ينسجم ويتناغم مع واقع مجتمعه غير متعالية عليه حتى ينفذ إلى أعماقهم ويستشف لحروفه ضوءاً في حياتهم تجعل سعادته بذلك الضوء مذهلة!!
إن الرواية التي نفهمها من أول وهلة، هي ناقصة البناء الفني والحبكة الدرامية، سطحية الأخيلة والتأمل، لا تسكن مفرداتها في الذاكرة ولا تضيف أي محتوى للمخزون المعرفي والثقافي والفكري لدى القارئ بينما نجد أن بعض الروايات عالمٌ من الإثارة تجذبك لاكتشاف النهاية، قد تكون قليلة الصفحات لكنها عميقة المعاني والبناء والدهشة والتأثير والقارئ ليس في حاجة لعدّة صفحات تخلو من التشويق والإثارة بقدر حاجته لاستثارة فضوله لمعرفة النهايات وهذا الإبهار لا يتوفر في معظم الكتاب لأنك بمجرد قراءتك لعناوين إصداراتهم تكتشف مضمونها من العناوين وتكتفي بها لهذا ففي اعتقادي أن الفرق بين الكاتب والمفكر المؤثر يكمن في مقدار مخزونه الثقافي وفي عمق أخيلته وتعدّد مفاهيم تجربته وتنوع قراءاته وتجاربه الحياتية وربما في تفرد ملكات الكتابة لكل منهم والقدرة على خلق جدلية التأويل لإصداراتهم بحيث الكل يفهمها وفق ثقافته ورؤيته الخاصة لرمزيتها وجدليتها ووفق قدرته التحليلية واستنطاق كوامن النص، هنا يحدث الحراك الفكري وتزدهر المعرفة وتنمو الثقافة.