في البحث عن علل ما نعيشه، وأسباب ما نحن فيه؛ تلتقي الآراء، وتجتمع الأفهام، وتتحدّ الأصوات؛ فالجميع متفقون، والكافة مؤمنون، والخاصة والعامة مُسلّمون، أنّ علة العلل، وسبب الأسباب، وأساس المشكلات، هي أنّنا نُنظّر ولا نعمل، ونتكلم ولا نفعل، ونُخطط ولا نُنفّذ، بهذه الآفة تُفسّر حالنا، وما نُعانيه هذه الأيام، الكبير والصغير، والمتعلم ومن لم يحظ بالتعليم، والأب والابن، والأم في بيتها والبنت، والزوج والزوجة، والعالم والمتعلم، والرئيس والمرؤوس، الجميع يُدرك أن المشكلة الكبرى، والمعضلة العظمى، هي أننا نجيد فن القول، ونحسن بناء النظريات، ونعجز في ميدان العمل، ويصيبنا الكسل في ساحته، فنحن نُشطاء في النظرية والكلمة، فقراء في التنفيذ والتطبيق.
نزلت هذه الآية قبل أربعة عشر قرنا، وما زال هذا الداء قارّا فينا، ومحيطا بمجتمعاتنا وأفرادنا، وإليه تُنسب معظم مشكلاتنا، ومنه تنسل كبرى تحدياتنا، لم نستطع علاجه، ولم نملك رفعه، ولعلنا أيضا لم نُفكّر في الطرق التي تأخذ بنا إلى مداواته، والتخفيف من بُرحائه!
بسط الله تعالى لنا الداء، وأوضح لنا العلة، وترك لنا معالجتهما، وأوكل إلينا مداواتهما، ومضت علينا القرون، وانقضت الأزمان، ونحن نترامى الداء، ونتقاذف به، وكان غاية ما نستطيعه أن يُعيّر به فرد منا فرداً، وطائفة منا طائفة، وكأن الآية ما نزلت حتى نشرع في حلّ هذا الداء، والتفكير في أسبابه، والنظر في طرق التعافي منه، وإنما جاءتنا حتى يعيب بها فريق فريقا، وتتهم جماعة بفحواها جماعة، ويلمز فرد بمعناها أخاه.
هذه الآفة على كل لسان هذه الأيام، نسمعها من الداعية، ونستمع إليها من الشيخ، ونقرؤها على صفحات الكتب، الجميع يرى أساس مشكلاتنا هي القول دون العمل، والتنظير دون التنفيذ، وأنا اليوم أحب أن أنقل الحديث عن هذه الآفة إلى ميدان البحث العلمي، والتفكير الأكاديمي، فأقول وأرجو ألّا أُبعد في القول:
إن كثيراً منا يُدرس هذه المادة، ويشرحها لطلابها، فيُوضّح مراحل البحث العلمي، وصفات الباحث وحقوقه، ومما يذكره لهم، ويبسط الحديث عنه بينهم، فروض الباحث العلمية التي تنبثق من عقله حين يُواجه مشكلة، ويُديم النظر في قضية، وعليها ينبني البحث، وتمضي أبوابه وفصوله، وهدف الباحث، ومعه البحث، أن يصل إلى تأكيد تلك الفروض أو دحضها ونفيها، والباحث في هذا كله حر طليق في اختيار فروضه، وتحديد وجهة بحثه، وذاك حق مقدس من حقوق الباحث، ودونه تصبح ثقافة البحث العلمي قولا بلا عمل، وتنظيرا بلا تطبيق، وتزيّدا بلا منفعة، وحينها ينطبق على البحث العلمي وأهله عندنا ما ينطبق على كل إنسان (يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون).
هذا هو البحث العلمي، وتلك فروضه العلمية، وذاك شيء من حقوق الباحث، ومجتمعنا المسلم اليوم مذهبي، يؤمن بمذهبه، ويتعصّب له، ويبذل كل جهد في نصرته، ومثل هذه المجتمعات تُعدّ ثقافتها المذهبية، وروحها العصبية، ضدا للبحث العلمي وثقافته، ومانعا، وأي مانع، من ازدهاره، ونماء شجرته؛ فحديثنا عنه، وتدريسنا إياه، وبذلنا الجهود في تمرين الطلاب عليه، مخالفة لروح هذه الثقافة، ومعارضة لها، وما يتعلّمه الطالب في هذه المادة العلمية، ويقضي ساعات طوالا في فهمه والتمرس به؛ يجد ما يُصادمه في جنبات الحياة، وردهات الجامعات؛ فالكثيرون، للأسف، لديهم فروض علمية مسبقة، يُريدون منه أن يُؤكّدها، وينتصر لها، ويبحث عن حججها، ومن لا يفعل ذلك عندهم، فهو عدو مُكاشح، ومعاند مكابر، يُخالف حتى يُعرف، ويشذ حتى يُذكر!
تلك هي قصة البحث العلمي في مجتمعاتنا المسلمة، يراد له فيها أن يكون سلاحا في الدفاع عن فكرة مألوفة، ومذهب موروث، وقول مأثور، فيُعلّم البحث، وتُدرّس قضاياه، ويُمرّن الطلاب عليه؛ حتى يدافع به المسلم عن مذهبه، وآراء إمامه، ومأثورات شيوخه، ويُحامي به عن فروض قال بها الأول، ودفعت به ظروفه إليها، فيلقى البحث العلمي حتفه على أيدينا؛ كما لقيت الآية الكريمة حتفها على ألسنتنا، فيصبح البحث، وما نشأ إلا لاختبار الفروض والتأكد من سلامتها، سلاحا في الدفاع عن فروض الآباء، والمحاماة عنها، فتكون حاله كحال الآية التي نزلت؛ لتدفع بنا في حل مشكلة القول دون العمل، ومعالجة قضية التنظير دون التطبيق، فأصبح معناها على أيدينا اتهاماً يُلوّح بعضنا به في وجه بعض، وملمزاً يهمز به فريق منا غيره، فأنّى لمجتمع كهذا أن ينتفع من الآية الكريمة، ويستفيد من البحث العلمي وثقافته!
نقلا عن الرياض