لا أعتقد أن هناك جدوى من أي مناظرة تعقد الآن بين شيوخ معاصرين، لأنها مناظرة بين فقهاء عصور مضت، فكل فريق معاصر يجد مستنده في أقوال أهل العصور الخالية، وهذه الأقوال مبثوثة في كتب التراث ولا تحتاج اليوم لعرضها مرة أخرى لا في كتب ولا مناظرات تأخذ طابع التحدي والسباق على الجماهير، فذلك ليس من العلم في شيء.
لن يتوفر للمناظرة ضوابط ولا بيئة قابلة ولا لغة مشتركة بين أطرافها ولا مستمعون محايدون، فحزمة التحزب للجانبين تضم ركاما من الحطب القديم والجديد، حطب اجتماعي، سياسي، تاريخي وجغرافي، وسيخرج الطرفان وجمهورهما كما دخلوا؛ كل يحمل حزمة حطبه.
لو تكلموا مثلا في موضوع "الاختلاط" أحدهما يرى أن الاختلاط طبيعة الحياة وسنة الله في الناس ولا يناقش داخل الدين، والثاني يرى أن الاختلاط لا يمكن نقاشه إلا داخل الدين لأنه حرام وذريعة للفتنة والمفسدة، وهنا أيضا لا يوجد عندهما تعريف مشترك للفتنة والمفسدة. وسيأتون بذات المرويات وسيختلفون على فهمها ورواتها كما اختلف الذين من قبلهم.
لو تكلموا في مسألة الموسيقى، فهم مختلفون من أصل المبدأ؛ فطرف يرى أنها طريق للفحش، وطرف يرى أنها ضرورة للحياة، وسيغرف كل طرف من التراث ما يشاء.
لو تكلموا في "الحجاب" فسيعيدون ما قاله الأوائل، نفس المرويات ونفس الطعون، والتراث يمنح كل طرف حاجته وزيادة من الأقوال والطعون.
وبمناسبة الحجاب؛ شاهدت قبل شهور حواراً بين كاتب صحفي وبين ناشط سلفي عن الحجاب، وكانا معا يستخدمان لفظ "الحجاب" بنفس المعنى. الطريف أن فهمهما معا للـ"حجاب" كان خاطئا، ولو تناظرا شهرا كاملا لما انتهى كلامهما، لأنهما يتكلمان طول الوقت خارج الموضوع.
لا يوجد في التراث الفقهي تعريف للحجاب لغة واصطلاحا، لسبب بسيط هو أن لفظ "حجاب" وألفاظ (فاصل، جدار، حجاب، باب) لا تستدعي تعريفا شرعيا مثلما هو حال ألفاظ مثل (صوم، صلاة، إحسان).
وبالمناسبة فالخلاف حول "الحجاب" يعطي مثالا جيدا على عبثية الأطراف جميعا؛ فلبس المرأة وغطاء وجهها لا علاقة له بلفظ "حجاب" ولا أعرف في أي عصر متأخر أضاف الناس معنى غطاء الوجه ولبس المرأة إلى لفظ "حجاب" فصار لباس المرأة حجابا بينما بقي لبس الرجل لبساً فقط.
للخلاف معنى حين يدور حول ملابس وزينة وغطاء وجه المرأة لكنه لا معنى له حين يدور حول "الحجاب" جوازاً ومنعاً. هو خلاف غير معقول لأنه يستخدم لفظ "حجاب" لغير ما وضع له، لا القرآن الكريم ولا اللغة العربية ولا كتب الحديث أوردت لفظ "حجاب" بأي معنى له صلة باللباس وتغطية الوجه، على الإطلاق.
الحجاب هو الحاجز الفاصل بين شخصين وليس لبساً لأي منهما، كالأفق بين الناظر والشمس، وكالجدار بين غرفتين، ومنه "الحاجب/ السكرتير".
من باب آداب السلوك منع القرآن رجال الصحابة من دخول بيوت النبي عليه السلام (لاحظ: بيوت النبي وليس بيت النبي) إلا إذا كانوا من محارم نسائه أو كانوا مدعوين لوليمة، ويدخلونها بإذن عند جهوزها وينصرفون فوراً، ولأنه ليس لزوجات النبي في بيوتهن حُجّابا يمنعون الناس من الدخول فقد ألزم القرآن كل رجل أجنبي عنهن يحتاج متاعا من أحد "بيوت النبي" أن يحرص على الوقوف خارج البيت ويطلب ما يريد. هذا الجدار هو الحجاب، والآية تلزم الرجال بسؤال المتاع من وراء حجاب.
نقل لفظ "حجاب" من معناه الأصلي إلى معنى اللبس جعل الناس يعتقدون أن "فاسألوهن من وراء حجاب" موجهة وملزمة للنساء بينما هي موجهة للرجال وملزمة لهم.
هذا مثال واحد على ما يفعل الناس والزمن بلغة القرآن الكريم، وسيظلون يحملون حزم الحطب ويطلبون المناظرات ويختلفون في كشف الوجه وتغطيته حتى تقوم الساعة، ما داموا يتجاهلون فصاحة القرآن المبين وصدارته في التشريع وانضباط اللغة العربية ومرجعيتها في فهمه.
نقلا عن الوطن السعودية