المدرس مجرد حلقة في سلسلة، مجرد موظف مثل غيره يطبق المطلوب منه ويتمتع مثل غيره بنفس مزايا التحيز والشللية والتسيب قدر الإمكان، وهذا من حقه مثل غيره. عندما يسألني أحدهم، ألست أحد الذين درسوا هذه المناهج في نفس المدارس، أقول له نعم، ولكن سؤالك ناقص ودفاعي ملغوم، لأنك تبحث عن الجواب الذي يدعم أسباب الفشل. السؤال المحايد والعادل يكون هكذا: عندما ابتعثت أنت بعد الثانوية العامة إلى الخارج، هل وجدت نفسك مؤهلا بما يكفي للدراسة الجامعية هناك؟. جوابي عندئذ سوف يكون «لا»، ليس بسبب اللغة الأجنبية ولا الاختلاف في المفاهيم، وإنما بسبب ضعف التأسيس والتجهيز العقلي لاستقبال المعرفة بمتطلبات المنهجية والتفكير والتحليل. هذا الوضع كلفني آنذاك سنة تحضيرية كاملة بالإضافة إلى نصف سنة لتعلم اللغة، لكي أصبح قادرا على الجلوس مع طلبة الطب من مختلف أنحاء العالم في نفس القاعة وأمام نفس الأستاذ الألماني وأفهم ما يشرح، أو أفهم بعضه على الأقل، ليس بسبب المنطوق وإنما بسبب الترابط العلمي فيه.
هذا الوضع بالضبط ما زال موجودا عندنا في الداخل عند التحاق خريج الثانوية العامة بكلية علمية سعودية. على هذا الطالب عبور سنة تحضيرية كاملة يتعلم فيها إنجليزية غير التي نجح فيها في المدرسة، بالإضافة إلى تأسيس جديد في المواد العلمية. الكليات النظرية لا تحتاج بالطبع إلى هذا التأسيس الجديد، لأنها استمرار للنسق الذي اعتاده الطالب في المدرسة، أي تعليم غير منهجي لا يحتاج إلى تفكير مستقل.
هذه الإشكالية المعبرة عن رداءة التعليم ما قبل الجامعي يجب أن يعترف بها المعلمون في المدارس السعودية عند التحاق أبنائهم وبناتهم هم بالكليات العلمية في الجامعات السعودية. تربيتهم المنزلية في بيوت مدرسين ومدرسات للرياضيات والعلوم لم تؤهلهم للتفكير المنهجي المستقل وتغنيهم عن السنوات التحضيرية.
أكتفي في هذه الحلقة بهذا القدر على أن تكون التكملة في الحلقة القادمة، لأن النقاش في هذا الموضوع يجب أن يطول ويتنوع ويتفرع، استجابة للمماحكات الأخيرة والحساسيات التي انتشرت في التواصل الاجتماعي والإعلام حول وزارة التعليم والمعلمين وحول بعض ما قيل وكتب مما يحتمل الصحة والخطأ ويستوجب النقاش للمصلحة العامة.
2-
عندما نقول «المعلم» لا نعني شخصاًً بذاته، وإنما المحصِّلة النهائية للتعليم التي هي الناتج النهائي للمنهج والكفاءة المهنية والإخلاص للمسؤولية، لذلك يتوقع أن يكون أي معلم يدرك امتلاكه لهذه الميزات أن يجد نفسه خارج الحساسية من النقد الموجه للمعلم، بل ويفرح له وبه، بناءً على معرفته لزملائه الآخرين بالمقارنة والمعايشة اليومية.
ما زلنا نتذكر مصطلح «تعليمنا مختطف» الذي نكرره كثيراً منذ عشرين سنة. المعنى في ذلك هو أن التعليم انحرف من مهمته لإنتاج العقول والأفكار والكفاءات، نحو مسارات أيديولوجية سياسية. هل ينكر أحد حصول ذلك؟. بلى هذا ما حصل، ولكن الساحة الوطنية بكاملها كانت مختطفة بنفس الطريقة.
دور المعلم في استخدام الفصل الدراسي للأدلجة السياسية كان مجرد جدول إضافي يصب في نهر الدعوة والمتاجرين بالدعوة (وهم يعرفون أنفسهم بالتأكيد)، والفضائيات الدينية والشعبية ومعسكرات الشباب اللاصفية. النتيجة كانت حرمان التعليم بالذات من الإمكانيات المالية الهائلة التي وفرتها الدولة لوزارات التعليم، وتخريج إما عقليات إرهابية أو مسوخ لا تستطيع الحديث بلغة عربية سليمة.
إذاً ما دام هذا هو واقع التعليم السعودي ومخرجاته، لماذا ينزعج بعض المعلمين والمعلمات من تذمر الوزير تجاه أدائهم ومحاججاتهم، ومن النقد المفتوح الموجه للتعليم والمعلمين كبنية أساسية لنهضة الأوطان، وليس لهم كأشخاص؟.
الاحتجاج بسوء المرافق ونقص التجهيزات وشح المياه النظيفة يمكن قبوله فقط كفقرة جانبية في النقاش، لماذا؟. لأن المعلم السعودي يجب أن يعترف بأن الكثيرين من نوابغ الهنود والدول الآسيوية في الرياضيات والحواسيب والبرمجيات وعلوم الذرة لم يتلقوا تعليمهم في فصول مكيفة، وإنما تحت الأشجار في الحقول وأحياناً بين حظائر المواشي. الفرق كان في كفاءة المعلم وإخلاصه وانفكاكه عن الأدلجة العقائدية والسياسية.
هل للطبيب الحق في التقصير تجاه بعض المرضى، محتجاً بالغبن وسوء تهوية العيادة ونقص الأدوية؟. لا ليس له الحق في التقصير، فهو مطالب بتقديم أفضل ما عنده حسب الإمكانيات المتوافرة، ولا دخل لمذهب المريض ولانتمائه الحزبي أو القبلي في الموضوع. لذلك، ولأنه يوجد أطباء يتعاملون مع مهنتهم بهذه العقليات المريضة ننتقد سوء الخدمات الصحية ونطالب بمراقبة الأطباء والمؤسسات الطبية.
المرحلة التي نعيشها الآن مرحلة حرث جديد وإلقاء بذور أفضل، ولن يكون التعليم استثناءً من ذلك، بل يجب أن يكون المعلم أول من يفرح بحرث حقله وتجديد تربته الزراعية.
في الختام مرة أخرى، المعلم مجرد موظف مثل غيره، لكنه الموظف الذي تتناسل كل الفعاليات الوطنية القادمة بخيرها وشرها من خلال كفاءته وإخلاصه وعدم توقفه عند المرحلة التي تعين فيها أول سنة في الوظيفة.
نقلا عن الجزيرة عددين متتاليين