جاءت مداخلة «كريستين لا جارد»، مديرة صندوق النقد الدولي في منتدى المالية العامة للدول العربية الذيُ سبق مؤتمر القمة العالمية للحكومات ــ ع َقد في دبي بداية هذا الأسبوع ــ، حول طبيعة التحديات التي يعانيُ منها الاقتصاد الخليجي لتعكس توصيفا واقعيا، مبتعدة عن إعطاء وصفات مثيرة للجدل كما تعودت في زياراتهاالماضية. وكلنا يذكر نصيحتها لحكومتنا السعودية بمزيد من التقشف والاستمرار عليه. وهي نصيحة ظاهرهاجميل ويتماشى مع الظروف الحالية، لكنها تحمل الكثير من عوامل الإبقاء على الركود الاقتصادي الذي عانينا منهوما زلنا، نتيجة تراجع الإنفاق الحكومي الذي كان ولا يزال المحرك الرئيسي لنمو القطاع الخاص السعودي.
ولعل العنوان الرئيسي لمداخلة «لا جارد» ِ هذه المرة، هو تحذيرها م ْن تفاقم نمو الدين العام الحكومي لدولْ الخليج، ومن عدم إمكان ضبطه، في ظل عدم تعافي الاقتصاد الخليجي، مما أسمته «صدمة انخفاض أسعار النفطعام (2014 .«(وبينت الترابط بين عدم استقرار المالية العامة واللجوء إلى مزيد من الاقتراض من السوق المحليةوالدولية.
َّ صحيح أن المعاناة من الانخفاض الكبير في أسعار النفط قائمة؛ وذلك أن الأسعار قد انخفضت من أكثر من 100دولار للبرميل إلى أقل من 50 دولارا، خلال فترة قصيرة نسبيا. وتلك الأسعار، ــ ومع تراوحها هذه الأيام حول الـ60دولارا للبرميل - إلا أنها ما زالت أقل بكثير مما كانت عليه في فترة ما قبل (2014 َ .(وقد تزامن ذلك مع بدء إعادةهيكلة الدول الخليجية، وعلى رأسها المملكة، لاقتصادها بعد إدراكنا الأخطار الجسيمة الناتجة عن اعتمادنا علىمصدر وحيد خاضع للتقلبات العالمية، وهو النفط.
وبدأنا سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية في ظل رؤية واضحة، (2030 ،(وهي الرؤية التي لم تكن لدينا رفاهيةُّ ّ ، أو الأخذ ببعضها وترك الآخر؛ لأننا قد تأخرنا كثيرا عن تطبيقها. ْ وجاءت خطوات العمل بها
القيام بها بالتدرجعديدة، منها قيام الحكومة السعودية بتعديل أسعار الوقود، وفرض ضريبة القيمة المضافة، وفرض رسوم علىً الأراضي البيضاء، وتطبيق الحوكمة على الأداء الحكومي، وترشيد الإنفاق، إلى جانب حملة محاربة الفساد، إضافةإلى غيرها من الإصلاحات الأساسية للاقتصاد السعودي، مع الأخذ باستكمال التجهيزات الأساسية، والتركيز علىً تطوير القطاعات الاقتصادية المختلفة، وخاصة تلك التي تعتمد على المزايا النسبية التي نمتلكها.
ونتيجة لتلك الخطوات انخفض الإنفاق الحكومي، وزادت حصيلة الإيرادات الضريبية، وانخفضت القوة الشرائية لدىالأفراد، في الوقت الذي زادت أسعار الكهرباء والوقود والسلع عموما مع فرض ضريبة القيمة المضافة. قابل ذلك،ومع توسع الحكومة في البدء بتطبيق برامج رؤية (2030 (َّ ، زيادة عجز الميزانية؛ الأمر الذي أدى تدريجيا إلىُ َّد ُ من مرورهاالاقتراض وتنامي الدين العام لمواجهة أوجه الإنفاق الجديدة التي لا تدر عائدات فورية، بل لا ِ بمرحلة انتقالية، وم ْن مواجهتها عدم تعافي أسعار النفط؛ لتحقيق مستويات نقطة التعادل بالنسبة للميزانيةالسعودية.
أدى كل ذلك – كما ذكرنا – َ إلى تنامي الدين العام، فقفز من (3.44 (مليار ریال في (2014 ،(ــ وهو ما مثل نسبة6.1 %من الناتج المحلي ــ، ليصل إلى (555 (مليار ریال بنهاية العام الماضي (2018 ،(وتصل نسبته إلى (21 (%منالناتج المحلي، وسيصل إلى (678 (مليار ریال بنهاية العام الحالي. وتلك قفزات سنوية كبيرة بكل المقاييس، فيظل المليارات التي تدفع سنويا كفوائد عن هذه القروض.
ْ وعلى الرغم من الهدف الذي وضعته الحكومة، ــ وهو أن لا تزيد نسبة الدين العام عن (30 (%من الناتج المحليبحلول (2020 (َّ ــ، فإن إغراء وسهولة الحصول على ما تريد، وخاصة من الخارج، يدفعان إلى اللجوء إلى هذا المصدرلتمويل عجز الميزانية. ّ صحيح أن الدين العام للمملكة وجميع دول الخليج ما زال الأقل عالميا، نسبة إلى الناتجَّ المحلي الخليجي، لكن ْ ذلك لا ينبغي أن يُ َ جعل معيارا للتوسع غير المدروس في التزود بهذا المصدر.ٍ ها بمثابة غطاء أمان للريالَّ وحتى تسييل الاحتياطيات النقدية المودعة خارجيا، كان ولا يزال في أضيق الحدود؛ لأنالسعودي. ْ وتلك الاحتياطيات، وإن فقدت (30 (%من حجمها لتكمل من تغطية عجز الميزانية، إلا أنها ما زالت في عائدات محدودة.
ُّ
ُ ها على هيئة أصول شبه سائلة تدرحدود الـ(450 ُ (بليون دولار، م ٌ ودع أغلبُّ وإذا كانت هذه النقطة المتعلقة بالدين العام الخليجي، هي الأبرز والأهم في كلمة مديرة صندوق النقد الدولي،ٌ َ لما سبق ْ أن صرحت به مرارا، في جميع زياراتها الإقليمية، وهيَّفإن َّ بقية النقاط التي ذكرتها ما هي إلا َ تكرارٌ نقاط ٌ معلومة ْ تماما، وتطبيقها في دولنا الخليجية قد بدأ منذ فترة، وإن َ كان لا يزال يعاني من بعض التحديات.
فالسيدة لاجارد تذكر، على سبيل المثال، مسألة القضاء على الفساد، والحوكمة المشددة للأداء في الأجهزةْ الحكومية، والشفافية وهي نقاط معلومة جميعها لدولنا، وقد بدأت في تطبيقها بنسب متفاوتة من النجاح.فالقضاء على الفساد ــ ووجوده يمثل عقبة رئيسية أمام التنمية الاقتصادية ــ قد بدأ مرحلة مهمة ومستمرة فيَّ المملكة، أم ْ ا الحوكمة فماضون في تنفيذها، وإن لم تكن هنالك تقارير توضحه أو دلائل بعد على كفاءته (أعنيالتنفيذ). ْ وهنالك الكثير من الشفافية في الأداء الحكومي لكن لا يزال يواجه بعض القصور، وستتغلب عليهالحكومة تدريجيا.
ْ وختاما، فتخوفات مديرة صندوق النقد الدولي هذه المرة أقرب إلى أن تعكس طبيعة التحديات التي تواجه دولنا
ْ الخليجية، وإن َ كان التكرار صفة ملازمة لها. َّ كما أن َّ السعودية قد حق ْقت تقدما ملموسا في كثير من الإصلاحاتَّ الاقتصادية، ويتبقى أيضا الكثير مما سيتحقق، خلال الفترة القادمة بإذن الله.
نقلاعن عكاظ