وسع أيّ قارئ لتاريخ المسلمين أن يقف على المتغيرات الفكرية والظروف الاجتماعية والسياسية التي شكلتبالتيارات الفكرية المتباينة في توجهاتها، وأن يقف على الأهداف والغايات التي كانت تنشدها، وسيكتشف لاً محالة أنها جميعا، وبلا استثناء تتكئ في جذرها الأساسي - ً ادعاء أو صدقا- على المحفوظ القرآني، أو المنقول أوالمجموع من السنة النبوية، على اختلاف النظر في المنقول؛ من سنام الصحة إلى حضيض الموضوع، ليبقى مناطً الاختلاف بينها، والتباين في طرحها جميعا ّ ، معل ّ قا بشكل جوهري وأساسي على محصلة الفهم، وإعمال الفكر،والتأمل في مرآة النص المنظور، حيث يقع التوافق في الغالب الأعم على «منطوق النص»، وينشأ الاختلاف منثم في حقل التفسير والتأويل.. ٍ وهو اختلاف مثر ً للحراك الفكري، وأي ثراء، طالما بقي مسجيا في دائرة احترامالرأي، وتقدير الظرف، مع توفر كافة المعطيات والأدوات الموجبة لاشتغال الذهن، فهو العمدة في التعاطي،ّ والموجه في السجال.
على أن هذا المنظور «المثالي» المنشود لم يتحقق بكامل نصاعته على مر الحقب التاريخية، لا للمسلمين، ولالغيرهم، بشكل مستدام ومتوارث، فقد شهدت ساحات المسلمين سجالات فكرية انتهت -من فرط احتدامها- إلىتشكيل صراعات استلت فيها السيوف من أغمادها، وطاحت فيها رؤوس من مساند أكتافها، مأخوذة في ذلكً بعوامل أخرى وفقا لكل حقبة ومؤثراتها، وبقي المسلمون في حركة إنتاجهم الفكري وتشكيل التيارات يراوحونالمسافة بين الطرح في ساحة السجال بكل مساحتها المحتملة، ومحاولة الجبر والإكراه بمحركات مختلفة، أدناهاً الإقصاء، وأعلاها إعمال السيف إفناء وإعداما..
ولو قفزنا فوق الحقب للنظر في واقع اليوم، لأمكننا أن نقف على تيار «الصحوة»، وهو يعيد إنتاج أسوأ ما
شهدته ساحة الفكر الإسلامي من صراع، فهذا التيار الخارج من عباءة الإخوان المسلمين بكل قبحهم ودناءةأنفسهم قد «ابتلينا» به، واختياري لمفردة «ُابتلينا» مقصود في ذاته، بكل حمولتها الدلالية السلبية، وما تنطويعليه من إشارات المعاناة والتباس المصائب، وليس في هذا التوصيف أي افتراء عليها، فهذا التيار، دون غيره منتيارات المسلمين الفكرية الأخرى، أحدث مبتدعات جذرية وخطيرة في طرائق التفكير، وأساليب الاستمالة، وأدواتالترهيب والترغيب.. ومن يقرأ أدبيات هذا التيار بعين فاحصة ينتهي إلى حقيقة بالغة الخطورة، وعظيمة التأثير،ومفادها: السعي نحو مصادرة حق المعرفة وحصرها في هذا التيار ومفكريه دون غيرهم، بما يمكن القول معهّ ودون أدنى تحفظ في ذلك « ً أن هذا التيار مارس نوعا من الدكتاتورية الفكرية سواء على المستوى الصريح أوعلى المستوى الإيحائي المبطن».
فعلى المستوى الصريح تكتظ مؤلفات مفكري هذه الجماعة بحديث مباشر عن خطأ من سبقهم، إلى غاية تأثيمً المجتمعات قولا ً واحدا، ورميها بـ«الجاهلية» كما يقول بذلك سيد قطب، في «ظلال القرآن»، بل إنه يذهب إلىً القول بأن جاهلية اليوم أشد مما كانت عليه قبل الإسلام، الأمر الذي فتح الباب مشرعا أمام موجة من التكفيروالتبديع والتفسيق ورمي الناس بالشبهات، وإغلاظ القول، والفوضى التي في الحقبة الماضية ابتلينا به، منقبل جماعة حكمت قبضتها على مفاصل المجتمع ومسيرته وفق رؤاها وأفكارها ومنطلقاتها وعقدها النفسيةالشخصية والعامة.. واحتكر هذا التيار المفهوم العام للنصوص، وفرضت قراءتها وفهمها على الجميع، معً تسفيه آراء الآخرين وإن كانت معتبرة تيارا أراد أن يركب مطية الدين وصولا لمبتغيات سياسية غاية في الخطورةوالكارثية.
أما على المستوى الإيحائي، فيتجلى مفهوم مصادرة حق المعرفة واقتصارها عليها، في سلوكه نحو «خطفوسرقة» لافتة «الإسلام»، في سياق من المزايدة والمتاجرة، حتى بتنا نسمع بالمخبز الإسلامي والبقالةالإسلامية وغير ذلك من الترهات، في سباق نحو هز شجرة العاطفة الدينية عند عوام الناس وسذجهم، وبخاصةالشباب بما تنطوي عليه من أشواق لإقامة الدين والعودة به إلى ناصع عهده الأول..
وقد ساعدت الظروف العالمية والمحلية على إتاحة الفرصة أمام هذه «الجماعة» ً للتمكين والتمدد، فعالميا خلقً مناخ الحرب الباردة بعد الحربين الكونيتين فرصة مواتية لنمو خطاب يجعل من الماركسية عدوا ً له، ومرتكزا لخطابه،ً ومحفزا ً لتجييش الشباب ضده، وضد الأنظمة العربية التي تبنت الخط الماركسي، فكان تمدد الماركسية مبرراً كافيا لإيجاد عدو حقيقي وليس افتراضيا، بما يبرر إعلان الجهاد، وملامسة أشواق الغيبيات لدى الشباب من حورعين وجنان وغيرها، مما أعد للشهداء..
أما على المستوى الداخلي فقد وجد هذا التيار السبيل إلى أرضنا من باب احتواء عناصره من الطغيان الذييعيشونه في أوطانهم آنذاك، فوجدوا الفرصة مواتية في مجتمع مسلم بالفطرة، ومتدين بالسليقة، ومحب لأخيهالمسلم، حسن الظن به، سليم النية تجاه طرحه، ومن هذه «الغفلة» وجد تيار الصحوة الفرصة للتمدد، فعبر إلىمناهجنا، وباتت له سطوة وصوت..
إن هذا الواقع المغاير لطبيعة النفس السعودية، أدركته بصيرة ولي العهد الأمين، لهذا جاءت كلماته في ذلكٍ بشارة لغد مشرق وواع ومعافى من كل معوقات، حيث قالها بكل وضوح وجلاء: «إن بلادنا لن تضيع 30 سنة فيً التعامل مع أفكار متطرفة مدمرة، سندمرها نحن اليوم وفورا، ونعود إلى ما كنا عليه قبل عام 1979 ،إلى الإسلامالوسطي المعتدل المتفتح على العالم وعلى جميع الأديان وعلى جميع التقاليد والشعوب إننا نمثل القيمالمعتدلة ونريد أن نعيش حياة طبيعية تترجم ديننا السمح وعاداتنا وتقاليدنا».
وليس بعد هذا القول من مزيد..
نقلا عن عكاظ