المحو الذي یمر بھ العالم العربي غیر مسبوق في العصر الحدیث وإن كانت أسبابھ معروفة منذ زمن بعید، منھا أسباب ورثھا
المجتمع من الحقب البعیدة في تاریخھ وتكوینھ وبنیتھ الدیموغرافیة الموروثة وموقعھ الجغرافي الوسیط وثقافتھ التقلیدیة، ومنھا
أسباب أحدثھا الاستعمار الذي جاء بعد الحرب العالمیة الأولى، وغذتھا فترة الانتداب الطویلة نسبیا، وخلقت روح الانكسار
والتبعیة التي لازمت الأجیال فترة طویلة واستمرت حتى الوقت الحاضر، وثالث الأسباب طبیعة الاستقلال المشروط وأدلجتھ
التي أضاعت التوجھ السلیم نحو المستقبل الحر القوي المستقل، وأضفت ضبابیة على معنى الدولة القطریة أو الدولة الشمولیة
.وأیھما یكون أصلح للناس، وعدم الفرز الصحیح بینھما
ورغم أن ھذا كلھ مضى وانتھى إلا أن الحدیث عنھ والبحث العمیق في ما صار إلیھ العرب یحتاج إلى موقف شجاع من كل
طبقات المجتمع العربي، من الساسة أولا، ومن المثقفین ومن العلماء الاقتصادیین وكل الفعالیات التي تھتم بالدراسات
المستقبلیة، ووضع الماضي القریب بین الأیدي وتحت الأعین لتصح المقارنة بین الحال الذي كان علیھ مع سوئھ، وبین ما
وصل إلیھ مما ھو أسوأ، فقد كانت ھناك دول قبل سنوات، قطریة قائمة مع ما فیھا من حالات الضعف والانحدار وعوائق
التنمیة، فمثلا ھناك في العراق دولة قطریة وفي سوریا مثلھا وفي لیببا كذلك وفي الیمن وفي السودان والصومال، وفي لبنان
.دول قائمة على أي حال كانت
ذھبت ھذه الدول وتحللت إلى عصابات وكنتونات وحروب قبائلیة وحزبیة وطائفیة، وتمزقت أجزاء الدولة إلى محاصصة بین
الطوائف والأحزاب، ولم یعد لھا رأس واحد، بل صارت تقاد برؤوس ثلاثة، وھذه الرؤوس الثلاثة للدولة ھي الاختراع العظیم
الذي صنعتھ فرنسا في لبنان، خاصة عندما منحتھ الاستقلال حین حددت ھویة رئیس الدولة وھویة رئیس الوزراء وھویة رئیس
.البرلمان طائفیا ثم عملت على تثبیت ھذا التقسیم وأبدیتھ
ولما جاء بریمر بعد ستین عاما ودمر دولة العراق اقتبس الاختراع نفسھ الذي كان في لبنان، وحدد ھویة الرؤوس الثلاثة في
الدولة العراقیة لتكون قیادتھا بثلاثة رؤوس أیضا، فرئیس الدولة حدد ومثلھ رئیس الوزراء والبرلمان على أسس طائفیة وجھویة
لم یكن یعرفھا العراق العظیم، والیوم یحاولون تطبیق الاختراع نفسھ في لیبیا برؤوسھ الثلاثة، وھو ما سیضمن دوام التنازع
.والاختلاف وخلق التقسیم الأبدي في المجتمع تبعا لرؤوس الدولة المتشاكسة
والسؤال: لماذا حصل التقسیم والمحاصصة الذي لا یوجد إلا عند العرب؟ وما نتائجھ؟ وكیف المخرج والخلاص منھ؟ وما
الدوافع لھ؟ ومن المستفید منھ؟
أولا، لمعرفة الأسباب ومعرفة بواعثھا ثم البحث عن العلاج ولو بالكي أو على أقل تقدیر وقف التدھور العربي قبل أن یفقدوا
الحس الذي یشعرھم بفداحة المأزق الذي یعیشونھ؛ لا بد أن یكون لدى القادرین منھم على التصور للمستقبل والمھتمین في
الدراسات الاجتماعیة والسیاسیة ومستقبل أجیالھم رأي یطرح وقول یذاع على الناس، فلم یعد الأمر قضیة عابرة ولا موقف
.جماعة أو حزب، ولكنھ حالة عامة في الوطن العربي من الخلیج إلى المحیط
التشظي الذي نراه لیس لھ سبب واحد نعزوه إلیھ كما كنا نفعل من قبل حین نعزو مآسینا للغرب والشرق، ونحملھم مسؤولیة ما
أصابنا حتى وإن كان بعضھ حقیقة، لكن ما یجب البحث فیھ ھو ما نقوم بھ من أعمال مساعدة على ھذا المحو الذي نراه في كل
شيء في واقعنا، نحن لا نرید أن نزید اللوم والبحث عن الأعذار، فقد كتب ما یكفي من ضروب النقد والنصائح والاجتھاد لدى
.كل مرحلة نصل إلیھا في مسارنا الطویل نحو التشتت والضیاع في مراحل التشظي والتفكك التي تأتي مرحلة بعد أخرى
نرید الآن وقد وصلنا إلى ما وصلنا إلیھ مرحلة صمت؛ صمت طویل نراجع فیھ ماضینا القریب ونعید النظر ونكرر المراجعة
والتأمل فیما صرنا إلیھ، بالصمت قد نحفظ المظھر الخارجي قبل أن تكشف البذاءات التي یتفوه بھا التافھون عن ھزیمة أخلاقیة
.ومعنویة ھي آخر ما یستطیعون
نقلا عن صحيفة مكة