مع أنّ في علماء الأمة من هم خير مني، أرسخ في العلم قدماً، وأعظم فيه فهْماً، إلا أنّني مدفوع بداعٍ شديد وخوف عتيد للحديث حول قضية، شغلت الأمة قديماً وحديثاً، وكانت إحدى أخسر القضايا التي دخلها المسلمون، وحامت حولها همومهم، كانت عليهم في ظني أضرّ من حرب ضَروس مستعرة، تأتي على الأخضر واليابس من الماديات، وشُغلوا بها في الماضي والحاضر، وكانت الخسارة فيها مركبة، خسر بعضهم فيها بعضاً، واتُّخذت سبباً إلى المقاتلة بينهم، وخسر الإسلام بها عند غير أهله حسنَ السمعة وجمال الأحدوثة، فهاتان ثمرتان مرّتان.
مضت قرون طويلة وحقب عظيمة والمسلمون يتراشقون بمنجنيق التكفير، تغزو به طائفة منهم أخرى، وتصول عليها به، وتحوّل كثير منهم في هذا الزمن إلى تسويغ ما كان يجري، وأنّه دعوة الدين وركن من أركانه، إن كثيراً من الجيل الجديد، خاصة الشباب قصيري النظر، حوّلوا التكفير ومسائله من الهامش إلى المتن، وصارت هممهم تنزع بهم إليه، وتحدوهم نحوه، فكأنّما صار للدين ركن جديد.
إن التكفير، وما يتصل به، مسارٌ قديم عبّده الأوّلون، وطرقوه حتى لانت أرضه على السالكين، وسهل حَزْنه على الراجلين، وما كان هكذا يسهل على الناس السير عليه، ويسلس لهم القول فيه، فيندفعون وراءه، لا يتذكّرون سوى نصوصه التي تُوحي به، وقواعده التي تدعو إليه، ويغيب عنهم ما يقف ضده، ويحول دونه، ويحميهم منه.
إنّ الطرق المعبّدة، والمسارات المسلوكة، تزدحم بكل مألوف، ويتلاطم فيها كل معروف، ويجدُ الإنسانُ فيها نفسه منقاداً رغماً عنه، ومأسوراً مع جَلادته، يدفعه الناس إلى ما يريدون منه دفعاً، ويمنعونه عن غيره منعاً، يُقدّمون له النصوص التي اصطفوها، ويضعون بين يديه الفهوم التي ارتضوها، فيجدهم قد سلّموه السنارة، وأعطوه معها السمكة، وأبعدوه عن البحر أن يركب متنه، ويجوبَ وراء الأسماك آفاقه!
إنّ أعظم مشكلة، مع ما تقدم آنفاً، تواجه الإسلام أولاً، والمسلمين ثانياً، هي أنّ كل طائفة تقف عند النصوص التي ورثتها عن أسلافها، تُعيدها على أتباعها، وتسرد عليهم فهمَها، فهي نصوص سُلبتْ رُوحها، وفقدتْ جوهرها، وذهبت سلطتها، جاءت ليفهمها الناس في كل حقبة، وينظروا فيها، ويستخلصوا معانيها، فوصلتهم منزوعة الدسم، خالية من المعنى، مقفرة من الدلالة، لا يملك الناس حقّ فهمها، ولا يُساعدهم، إن أرادوا ذلك، اتفاقُ الأجيال حولها، وانتهاؤهم من نقاش محتوياتها، ومَنْ ذا يجهلُ أنّ تفكير جمهور البشر يقف مستسلماً عندما يجتمع الناس حوله ويتفقون عليه؟
إنّ أخطر ما في هذا الاجتماع والاتفاق، أنّه يحول بين الناس وبين البحث عن غير ما علموه، ووجدوا الناس عليه، فتصبح مدوّنة النصوص متروكة، والتأمّل فيها مخوفاً، فتقوى بذلك الأفهام الموروثة، وتَعْدُو على الأذهان فتُغلقها عن كلّ معنى يُعارضها، ودلالة تُخالفها، فينتهي الناسُ إلى قراءة ما يزجرهم عن التكفير، فلا يلتفتون إليه، ولا يفهمون عنه، ويُنكرون على مَنْ يُذكّرهم به، ولعلّ في الحديث الآتي في قضية التكفير ما يُوضّح المعنى أكثر، وينقله بصورة أوضح، فدونكم الحديثَ، ودونكم هوامشي عليه.
روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا في سفر:" فأدركتهم القائلة في وادٍ كثير العِضاه، فنزل رسول الله وتفرّق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله تحت سمُرة وعلّق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله يدعونا وإذا عنده أعرابي فقال: إن هذا اخترط عليّ سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال: مَنْ يمنعك مني، فقلت: الله - ثلاثاً -، ولم يُعاقبه وجلس".
هذا ما روياه، وزاد عليهما الحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه:"... فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله وقال: من يمنعك؟ قال: كن خير آخذ. قال: تشهد أنْ لا إله إلا الله وأني رسول الله قال: أعاهدك على أنْ لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. قال: فخلّى رسول الله سبيله فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس".
أوضح المعاني في هذا الحديث؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب الرسالة، عَذَر الأعرابي، وأطلق سراحه، ولم يُعاقبه على ما فعله. ولم يُلزمه أن يُؤمن به، ويُصدّق بما جاء معه، وإن كان ذلك واجباً على الأعرابي مأموراً به، بل وقف عليه الصلاة السلام عند عرض الشهادة عليه، وأخلى بعد ذلك سبيله. إنّ من يعذر أعرابيًا في أصل الإيمان، حريٌّ به - عليه الصلاة والسلام - أن يعذر مسلماً مع حرصه جنح به فهمُه، وعثر به دون الغاية إدراكُه. إنّ من كان هذا هديه مع أعرابي فرد، جدير به أن يسير عليه مع الجماعات التي يكثر أتباعها وتعظم قوة رجالها!
نقلا عن الرياض