بات ھاجس توطین المعرفة والتقنیة من أكبر التحديات التي تواجه الجامعات العربیة الیوم، فقدرة
المجتمع على امتلاك التقنیة واستیعابھا لیست بالأمر الھین. صحیح أننا نشتري المعدات والآلات
ً المتطورة ونستخدمھا بشكل يومي، ولكن ھذا لا يعني قطعا أننا وصلنا مرحلة التوطین لھذا التقنیات،
فالتوطین يتطلب الإبداع والتطوير والابتكار في التصمیم والاستخدام، وبالتالي خلق مجال تنافسي مع
.الآخرين يعود على المجتمع بعوائد استثمارية وزيادة في القدرات التنافسیة
إن التوطین مرتبط ارتباطً ً ا وثیقا بالتعريب، بل إن التوطین يبدأ مع التعريب الذي يھتم بجعل اللغة العربیة
ً لغة الحیاة بشكل شمولي، فكر ً ا وشعور ً ا وعلم ً ا وعملا، وكل المجتمعات الصناعیة التي تمتلك التقنیة
وتطورھا الیوم، انطلقت من خلال لغتھا الأم، فمن المستحیل أن يكون ھناك توطین للمعرفة والتقنیة
.بلغة أجنبیة
ولا شك أن أھم المشكلات التي تواجه الجامعات العربیة الیوم ھي مشكلة تدريس العلوم بغیر اللغة
العربیة، وفرض التعلیم بلغات أجنبیة، مما يؤثر سلبًا على تقدمھا العلمي وإضعاف حلقة الوصل بین
العلوم والتقنیات الحديثة من جھة والمجتمع العربي من جھة مقابلة. فاعتماد اللغات الأجنبیة في
ً التعلیم الجامعي ينطلق أساسا من مفاھیم مغلوطة، وأول ھذه المفاھیم الاعتقاد أن مستوى الطالب
العلمي مرتبط بلغة التعلیم، فھذه الخرافة لا تستند على أي أساس منطقي، فلا يوجد أي علاقة سببیة
.بین المستوى التعلیمي ولغة التدريس
ً وثاني المفاھیم الخاطئة، الاعتقاد أن اعتماد اللغة الأجنبیة -الإنجلیزية تحديدا- سوف يسھم في خدمة
سوق العمل، وھذا الاعتقاد الخاطئ خلق كثیرا من التصورات الوھمیة في المجتمع التي تؤمن أن اللغة
أبنائھم اللغات الأجنبیة بداية من مراحل رياض الأطفال، وجعل المجتمع يتوسع في افتتاح المدارس الإنجلیزية ھي الطريق الوحید نحو المستقبل المشرق، وجعل الآباء والأمھات يحرصون على تلقین
. ً العالمیة التي أصبحت تلاقي رواج ً ا كبیرا بین أفراد المجتمع
سوق العمل لا يحتاج خريجین يجیدون اللغة الإنجلیزية بقدر حاجته لجیل قادر على امتلاك زمام لغته
العربیة وقدرته على التفكیر والتدريس والتطوير والابتكار من خلال ھذه اللغة، لأنه ببساطة لا يمكن أن
يكون ھناك إبداع من خلال لغة أجنبیة، بمعنى أن خدمة سوق العمل يجب أن تنطلق من خلال اللغة
الأم، وھذا يتطلب عملیة تعريب شاملة وتخطیط لغوي منھجي يھدف إلى إحلال اللغة القومیة محل أي
.لغات أخرى، لتكون ھي لغة العلم والتفكیر والابتكار
في الماضي كانت ھناك محاولات للتعريب، شھدت ترجمة كثیر من المراجع العلمیة، وھي محاولات
سامیة تستحق الاحترام والتقدير، ولكنھا تفتقر للتخطیط اللغوي الذي من أھدافه تدريس العلوم الحديثة
باللغة العربیة ووضع المصطلح العلمي الموحد، وھذا لیس بالأمر الھین، ولكن تأجیله يعني أن مشاكل
ً التعريب ستزداد تعقیدا وتصبح من المشاكل العمیقة والمستدامة، وھذا ما يجعل الجامعات تلوذ
بالخیارات السھلة والجاھزة التي أبرزھا الاعتماد الكلي على اللغة الأجنبیة في التدريس والبحث
.العلمي
إن عملیة التعريب في الماضي لم تتسم بطابع المنھجیة، وكانت تعتمد على اجتھادات فردية غیر
ً معممة لذلك نشأت مشكلة فوضى المصطلحات وتعددھا، وركاكة في اللغة العلمیة، فضلا عن غیاب
عملیة التعريب عن الواقع التطبیقي واقتصاره على الجانب النظري، فقرار التعريب يجب أن يرتبط
بالتخطیط اللغوي الذي يتطلب بدوره توافر معلومات عن الواقع اللغوي والمشكلات اللغوية في البیئة
.التعلیمیة وفي محیط سوق العمل
تفتقر عملیة التعريب في الجامعات العربیة لقرار إداري ملزم، وغیاب القرار الملزم بطبیعة الحال جعل
عملیة التعريب متروكة للاجتھادات الشخصیة وبالتالي ھي عملیة تفتقر للتخطیط المنھجي الذي يتطلب
ً تحديثا للغة وتنمیة لمفرداتھا لتكوين قاعدة موحدة للمصطلحات يجعل من اللغة مواكبة للعصر، فیسھل
التعبیر عن الأفكار العلمیة وبناء التصورات العلمیة انطلاقًا من اللغة القومیة، وھي عملیة لیست سھلة
ولكنھا ممكنة، وحتى تكون ممكنة يجب توفر الدوافع والقناعات بأھمیة التعريب الشاملة المرتكزة على
.عملیة تخطیط ممنھج للغة
نقلا عن الوطن السعودية