هناك تسارع ملحوظ في وتيرة القرارات التي تحث على خلق السعودية الجديدة ذات الجذور الممتدة الثابتة، كلمة سمو ولي العهد - حفظه الله - في مبادرة الاستثمار الأخيرة وقبلها مدينة "ذا لاين" وقبل كل شيء رؤية 2030 التي هدفت منذ البداية إلى تأسيس هذه الروح الجديدة التي تطمح لها المملكة تشكل حلقات متصلة ستتبعها حلقات كثيرة بإذن الله. السعودية الجديدة هي استمرار للقيم والمبادئ التي قامت عليها بلادنا منذ ثلاثة قرون لكنها تلبس ثوب العصر وتعبر عن روحه، وهذا أمر طبيعي وعقلاني، مفهوم "الجديد" هنا ليس الخروج عن "القديم"، فدولة مؤثرة على المستوى الديني والثقافي والاقتصادي مثل المملكة لا تتنازل عن هويتها وخصوصيتها الحضارية بسهولة، بل هي تجددها وتوسع حدودها، وهذه هي صفات الدولة الحية القادرة على بعث مقدرتها بروح جديدة كلما استدعى الأمر ذلك.
ومع ذلك فإن الشخصية المتجددة تحمل في جوهرها الكثير من المكونات المترابطة والمتشابكة ولا تكتفي بحراك محدود على المستوى الاقتصادي أو التغيير الاجتماعي، بل إن الأمر يمس البنية التشريعية والتنظيمية بشكل خاص كون النظام هو الذي يحكم كل حراك داخل منظومات الدولة المختلفة. لذلك فإن المبادرة بإحداث تغييرات جذرية تفك حالة الجمود في بعض هذه المنظومات والاستمرار في إحداث مثل هذه التغييرات هو الذي سيبعث الشخصية الجديدة لبلادنا، على سبيل المثال، القرار الأخير بإيقاف التعامل مع مكاتب الشركات الكبرى التي تعمل في المنطقة ما لم يكن مكتبها الرئيس في الرياض أو داخل المملكة يعبر عن هذا التحول الذي بدأته المملكة ولن تتوقف حتى تحققه لتنطلق إلى مرحلة جديدة. لقد أعطيت الشركات مهلة حتى العام 2024م، وهي مهلة كافية لتحزم تلك الشركات أمرها وتبدأ من قلب عاصمة العرب، الرياض.
إنه قرار لا يشير فقط إلى استيعاب الحجم الاقتصادي الحقيقي للمملكة، بل إنه يشير إلى تحول مباشر في الذهن التخطيطي على كافة الأصعدة الذي يقدر هذا الحجم ويعطي بلادنا مكانتها الحقيقية.
هذا القرار يصب في الفكر التنموي الذي طرحه سمو ولي العهد عندما أكد على التركيز على كون الرياض مركز استقطاب سكاني وعمراني خلال العشر سنوات القادمة، وحتى تتحقق هذه الأفكار تتطلب حزمة من القرارات الواقعية التي تحقق عدالة القوى الاقتصادية التي تضع المملكة في الموقع الذي تستحقه إقليميا. لا أنكر أن هذا القرار أحدث صدمة لبعض الدول الخليجية المجاورة التي استأثرت بحصة المملكة لسنوات طويلة، ورغم أننا نفكر في استعادة ما هو لنا أصلا، فإننا لا نرمي إلى التنافس السلبي مع جيراننا بل هو تنافس إيجابي، كما ذكر ذلك ولي العهد قبل عامين تقريبا، يهدف إلى بناء قوة اقتصادية إقليمية تجمع دول مجلس التعاون الخليجية، فالاتحاد لا يتحقق بالشعارات بل من خلال العمل على تطوير البنية الاقتصادية التي تجعل من كافة دول المجلس ترى أن الاتحاد ضرورة حياة وليس مجرد فكرة حالمة.
دون شك إن التنافس مطلوب ولعل هذا يعيدنا إلى فكرة "الأسرع يأكل الأبطأ"، فمن يبادر بفهم المعوقات التي تجعله أكثر سرعة وأقل بطئا، فهذا يصب في صلب أي رؤية للتحول، فهم هذه المعوقات وتغيير البنية التشريعية وحتى الثقافية التي صنعت هذه المعوقات هي بداية التحول الواقعي، إذا فالسعودية الجديدة، تلبس ثوبا تنظيميا وتشريعيا مختلفا، ثوبا يناسب مقاس قدراتها البشرية والطبيعية ويتوافق مع مكانتها الدولية الكبيرة، السعودية تريد أن تكون الأسرع ليس لتأكل الأبطأ القريب بل لتجعله أكثر سرعة ليشكل معها قوة فاعلة على المستوى الدولي، من يريد أن يلحق بنا فمرحبا به، فالمجال مفتوح للعمل معا، لكن تظل السعودية دولة قادرة على الحراك الذاتي، فهي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك ديناميكية بشرية وجغرافية هائلة.
قد تكون القرارات المتلاحقة التي صارت تتخذها المملكة صادمة للبعض الذي لم يكن يتوقع هذه الجرأة وهذه المقدرة على التعامل مع مشكلات متراكمة لعقود، والخروج منها بهذه السهولة، أنا على يقين أن أفضل توقعات هؤلاء، أو أسوأها، أن بلادنا ستكون مترددة كثيرا قبل أن تقدم على هذه الخطوات الواسعة في التغيير التي اتخذتها، وأنها ستحتاج إلى سنوات طويلة حتى تبدأ في التحرك، ولم يدر بخلدهم أن سيظهر هذا القائد الشاب، محمد بن سلمان، ليبدأ مرحلة جديدة لم تخطر على البال. التغيير في مثل حالة المملكة كان يحتاج وضوح الرؤية والجرأة، وهذه صفات يتمتع بها سمو ولي العهد، وفي اعتقادي أننا لم نصل بعد إلى أقصى سرعة، فنحن ما زلنا في البداية وعندما نصل للسرعة القصوى سنكون، بإذن الله، بعيدين جدا عن الآخرين.
نقلا عن الرباض