هل سأل أحد نفسه أو غيره لماذا يهتم العرب بأمر الأموات فيعظمونهم ويدعون لهم ويذكرون فضائلهم ويبالغون فيها ويصلون بها إلى درجات عالية من الثقة والثبات بكل ما قالوا وما فعلوا، فالميت ساعة وفاته تظهر فضائله وحسناته وما لم يعرف الناس عنه في حياته، فتسمع التبجيل والثناء والذكر الحسن وحتى في قنوت الصلاة تسمع الدعاء لهم والترحم عليهم أكثر مما تسمع من الدعاء للأحياء.
وتسمع الذب عنهم بالمأثور والمنقول والمعقول كقولهم (اذكروا محاسن موتاكم) وهو قول حسن وأدب جم يحتاجه الأحياء والأموات على السواء، فلو أخذ الأحياء
في هذا القول وطبقوه بحقهم قبل موتهم لعد فضيلة وخلقا جميلا، لكن أن يحظى بذلك الأموات دون الأحياء فهذا أمر فيه نظر وبحث عن الأسباب ليس عند الأموات رحمهم ا الذين ذهبوا إلى ما قدموا لكن عند الأحياء الذين لم يقروا بهذا الفضل إلا في وقت متأخر بعد انقطاع الأموات عن الدنيا وقدومهم إلى الآخرة.
يرى بعض المحللين أن السبب عند المعاصرين أنهم أمنوا منافسة الأموات لهم في الدنيا ومزاحمتهم على شؤونها ومطالبها وأغراضها وما يريده الأحياء منها، ومن مات فقد ترك المزاحمة والمنافسة وانقطعت صلته بالدنيا التي هي سبب البغضاء بين البشر والخلاف الذي لا ينتهي بين الأحياء، وهو استنتاج غير سديد لأن الدنيا تعمر بالمنافسة وتحلو بالتحدي وقلما تكون المنافسة بين الناس مسالمة وطيعة.
ويرى البعض الآخر أن هناك أكثر من سبب، أول تلك الأسباب ما جاء في التراث من أن المعاصرة حجاب وهو أمر مشاهد معروف، وأن الماضي بكل ما فيه معظم في الثقافة ومحمود عند الأحياء وممن أعجب بالأموات وأنكر فضل الأحياء الشاعر العظيم لبيد بن ربيعة العامري حين قال: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب.
والغريب في الأمر أن عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي ا عنهما تردد بيت لبيد كلما رأت الناس حولها وتقول ذلك وهي لا زالت في بقية الصحابة وسلف الأمة،
ومنذ عصر لبيد وعائشة حتى يومنا هذا والأحياء يرون فضائل الأموات ويتحدثون عنها وكلما بعد الزمن بهم زاد التعظيم لهم والتبجيل لمآثرهم حتى الشاعر أبوالقاسم الشابي أخذ بتعليل حجاب المعاصرة وأشار إلى أن الأحياء يكفرون عن أخطائهم ويندمون على تفريطهم عندما يزول غطاء المعاصرة عن أعينهم وتصحو ضمائرهم فيقول:
الناس لا يكرمون الحي بينهم
حتى إذا ما توارى عنهم ندموا.
ومن المعروف أن الأمم والمجتمعات تكرم عظماءها الأموات وتقيم لهم التماثيل والنصب في الأماكن العامة وتكتب كلمات قليلة تحت تلك النصب تعرف بهم وبالعمل الذي قدموه وبه استحقوا التكريم، وتقف عند هذا الحد، لكنها لا تختلق الأحاديث وتضع القصص والروايات عن أمواتهم، ولا تعرف الكرامات والمنامات والأحلام والمعجزات وتنسبها إليهم، ولا تحكي عنهم ما يريد الأحياء أن يروه بينهم ويعملوا به، والأهم من ذلك أن دور الأموات محدود جدا ينقطع بموتهم فلا يختلف الأتباع فيهم ولا يأخذون عن موتاهم شيئا من أمور دنياهم.
أما في التاريخ العربي والإسلامي فهناك سلسلة طويلة وأسماء كثيرة من المؤرخين والمحدثين والفقهاء والمفسرين والسادة والسلاطين والقادة وأصحاب الملل والنحل، وكل يأخذ حظه من الذكر ومكانه في التاريخ، بعض هؤلاء يتركون تراثا نظريا وعلوما يرثها الناس عنهم وأهمها وأخطرها تلك التي تكلموا بها ونشروها للبحث عن الحقيقة وإن لم يزعموا الوصول إليها، فيأتي بعدهم من يعظمهم ويأخذ عنهم ويجعل ما تركوه من تراث حقائق مطلقة وفتنة للناس وجدلا طويلا بينهم
وتفريقا لجماعتهم واختلافا لا ينتهي عند حد، فتصبح الأمة بسبب آرائهم فرقا ومذاهب وطرائق شتى تنفصل بينهم أواصر المحبة ويسود الجدل العقيم وكل يزعم أن المخالف له ضل الطريق المستقيم.
وهذه بلوى المسلمين رفع ا البلوى وأعادهم إلى طريق التقوى، أكرموا موتاكم، لكن لا تجعلوا أقوالهم وآراءهم فتنة بينكم فيد ا مع الجماعة وكل يؤخذ من قوله ويرد كما تقولون دائما
نقلا عن صحيفة مكة