لا تقتصر الظواهر الكونية على خصوصية المكان الذي ولدت فيه بل تمتد بعيداً إلى أماكن مجهولة وتندمج مع ثقافات متعددة فتحاك حولها القصص والأساطير. ولعل ظاهرة الحج التي نعيشها هذه الأيام، وأطلق على هذه الشعيرة "الركن الخامس" ظاهرة لأنها شكلت على الدوام مصدراً مولداً للثقافة الإنسانية بجانبيها المحسوس وغير المحسوس، فكما أن ملتقى الحج يمثل ثقافة حد الكفاية المتمثلة في فلسفة "الأقل هو الأكثر"، كذلك هو ملتقى بشري تنصهر داخله كافة الثقافات واللغات، إنه مهرجان للبشرية كافة يعيد الإنسان إلى سيرته الأولى ويذكره بقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" (الحجرات: 13). ثمة اتفاق على أن للحج ذاكرة، كذلك، وهي ذاكرة مكانية تنطلق من مكة إلى العالم ومن كافة أرجاء المعمورة إلى الكعبة المشرفة، كما أنها ذاكرة اجتماعية قائمة على مبدأ "لتعارفوا" فمن الواضح أن الشعائر الرئيسة في الإسلام تحث على التعارف مثل الصلاة والزكاة والحج، ومبدأ التعارف كما تبينه الآية الكريمة أحد أسباب الخلق وهو الذي يجعل للاختلاف والتباين بين البشر معنى، لذلك يمكن أن نرى الحج وذاكرته الممتدة كسجل للتعارف بين البشر.
لن يتسع المجال هنا لذكر حكايات رحلات الحج، فهي سجل ضخم، وما زالت، لذاكرة حفظت تاريخ تطور وسائل النقل وعادات وتقاليد كثير من الشعوب، أذكر وأنا صغير كنت أسمع في مجالس الأحساء أن كثيراً من حجاج وسط آسيا كانوا يمرون بالأحساء ويقيمون فيها عدة أيام ويسكنون الأربطة وبعضهم بنى أوقافاً في الهفوف والمبرز، لقد كان هناك درب للحج يمر بشرق الجزيرة ومنه إلى وسطها ومن ثم إلى الأراضي المقدسة قادماً من الشرق في آسيا. أذكر أن الأمير سلطان بن سلمان كان حريصاً على تسجيل طرق الحج خصوصاً الشامي والمصري على لائحة التراث العالمي، فهي ليست آثاراً مكانية يفترض أن نحفظها فقط بل هي سجل ثقافي واجتماعي وحتى حرفي وفني حافل، لم يعطى ما يستحق من اهتمام.
(وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ من كل فج عميق) (الحج: 27)، المجال المكاني الكوني الذي تشير له الآية الكرية "من كل فج عميق" مغر لإثارة الخيال، شعور عميق بالذاكرة الممتدة مكاناً وزماناً، فالناس مستمرة في حجها للبيت العتيق من كل مكان، وهي في انتقالها كانت تنقل معها ثقافات وأفكاراً، عادات وتقاليد وحرف وفنون، وبالتالي مفهوم الذاكرة المكانية المتجددة باستمرار تقدمه هذه الشعيرة في تفردها المرتبط بأيام معدودات وأمكنة محددة لكن الكون بأسره يدور في فلك هذه الأمكنة وتحكمه هذه الأيام. ولعلي أضيف ملاحظة ذكرها لي أحد الزملاء أن الزمن في الشعائر الإسلامية متغير بتغير الأعوام لأنها مرتبطة بالتقويم القمري فلابد أن يمر الحج في كل فصول العام عبر الأعوام. إنها ذاكرة صارمة في ارتباطها بالمكان المقدس وفي غاية المرونة والتنوع في نقلها للمتغيرات الإنسانية والطبيعية.
كنت أبحث في طرق الحج في إفريقيا فوجدت أن هناك طرقاً متعددة نسجت حولها القصص والحكايا، إنها دروب تبين العناء والمشقة التي كان يتحملها الحجاج للوصول إلى الأراضي المقدسة؛ "درب الأربعين"، ينطلق من غرب إفريقيا ويمر بأراضي "الهوسا" في شمال نيجيريا حتى أسيوط في أرض الكنانة ثم البحر الأحمر إلى الأراضي المقدسة. طريق طويل وخطر، لكنه يهون في سبيل أداء الركن الخامس. لقد كان هناك ما يسمى برحلة الحج الأندلسية وثقها الرحالة ابن جبير، وكانت تنطلق من غرناطة، بينما يحكي كتاب "رحالة الأميرة للحج" تفاصيل مهمة حول أساليب طرق الحج من الهند، فهو يسجل رحلة الأمير "سكندر بيجوم" مع قرابة 1000 حاج من إمارة "بوبال" في الهند عبر 3 سفن انطلقت من مومباي عام 1863. الجدير بالملاحظة أن هذه الدروب وأساليب الانتقال لم تكن ثابتة فهي تتغير باستمرار وتتراكم حولها التجارب، فهي تشخص الظواهر الاجتماعية والتقنية والاقتصادية لزمن يمتد لأكثر من 1400 عام.
كل ذاكرة تتكون من مخزون قريب وآخر بعيد، وذاكرة الحج القريبة، الأكثر سهولة ويسر، لا تحكي غنى وثراء طقوس رحلات الحج التاريخية وما تراكم حولها من عادات وتقاليد؛ قبل نحو 10 أيام كنت في إحدى المناطق الشعبية في حلوان بمصر، وتوقفت عند العديد من البيوت التي رسم على جدرانها الكعبة المشرفة وكتبت عبارات التهاني بجانبها، لأن صاحب الدار إما أنه عاد من الحج أو أنه في الطريق إليه.
تبقى هذه العلامات شاهداً بصرياً ثقافياً غير منطوق يميز الريف المصري كافة حتى بعد أن تغيرت الوسائل فقد شاهدت بعض البيوت التي رسمت عليها الجمال مع الكعبة في إشارة إلى وسيلة رحلة الحج وبعضها رسم عليه طائرة. لعلنا ندعو هنا إلى تبني مشروع حضاري يسجل ذاكرة الحج حول العالم، فهي ذاكرتنا وتمثلنا مهما كانت في مكان بعيد عنا.
نقلا عن الرياض