لم أكن أرغب في كتابة مقالي هذا، خاصة بعد مقال كتبته هنا قبل 9 سنوات، عنوانه «نمطية العمامة والطربوش»؛ لولا زيادة «التنميط» عند البعض، وإصدار الأحكام على الآخرين، بناء على فكرة أو ذاكرة أو تجربة سابقة، وهنا سأستعرض مثالين بارزين على التنميط السلبي، وأخص التنميط المبني على الزي، وتحديدا «الشماغ» و«الغبانة»..
«الشماغ»، أو «اليشماغ»، كما يلفظ في «العراق»، اشتهر ابتكاره بشكله الحديث في «بغداد»، عن طريق الحائك «موسى كراده» عام 1915، وهو من أنواع «الغتر»، جمع «غترة»، التي يعود أصل مفردتها إلى «الغتراء»، أي ما كثر من «الأكسية»، جمع «كِساء»، إلا أنه أخشن منها، وطوله بطولها وعرضه كعرضها؛ ويصنع من القطن، أو الكتان، أو مخلوطاً بهما، ومن أشهر ألوانه الأحمر والأسود، ويستخدم بكثرة في الخليج العربي وبلاد الشام، وتاريخيا بدأ استعماله كغطاء للرأس بسبب طبيعة المناخ، وضرورة الحماية من أشعة الشمس والغبار، وللدفء أيام الشتاء.
كتب التاريخ تذكر أن «الأتراك» أخذوا الاسم «السومري» العراقي القديم ونقلوه للغتهم، ليطلقوا عليه اسم «ياشمق»، وتذكر الكتب ذاتها أن الشماغ الحالي امتداد لليشماغ السومري، بالرسومات العتيقة نفسها، من شبكة الصياد، وخطوط الأسماك التي تزينه، وهي رسومات ابتكرت بزعم «طرد الأفكار الشريرة» عن لابسي الشماغ، وغير صحيح أن أصله جاء من «بريطانيا»، وإن كان أهلها مشاركين في تطويره، خاصة وأن تطريزه لم يكن باستطاعة السومريين القيام به، بسبب قلة الإمكانيات ذلك الوقت، كما ينسب إلى الجنرال الإنجليزي «جلوب باشا» الذي تولى قيادة الجيش الأردني في الفترة «1939م – 1956م» أنه هو الذي فرض لبسه على الجنود الأردنيين، بسبب قلة الطلب على الشماغ من المصانع البريطانية في الحرب العالمية الثانية، وهو من قام بتعميمه على قوات البادية وعلى الجيش الأردني، ولبسه، مع العقال.
أما «الغبانة»، التي هي نوع من أنواع العمائم الملونة، فالبعض يشن عليها هجوما غير مبرر، حتى أنهم أعادوها بزعمهم إلى «الهند»، وجعلوها من «الثقافات المهاجرة» و«التراث الوافد»، مع أنها إحدى أهم الموروثات القديمة؛ وتحكي كتب التاريخ أن «الغبانة» أو «الغاباني» أو «الأغباني» شال يتخذ من القطن أو الصوف أو الكتان أو الحرير، يوضع على الكتف، أو تلف به الرأس، أو الرقبة، وأصل الكلمة «يابانيي»، نسبة إلى «اليابان»، لأنه كان يأتي مطرزا «غالبا» من اليابان، وكان يأتي من «تركيا» و«الهند» أيضا، بعد أن كان ينسج بداية في «حلب» و«بغداد»، بأشكال كثيرة، وتصاميم ونقشات متنوعة، و تذكر الكتب أن الغبانة ضرب من النسيج الأبيض موشى بالحرير الأصفر، وأن من أوائل من نشر قماشه أمراء «المجر والأفلاك»، رومانيا وصربيا حاليا، وأمراء «البغدان»، مولدافيا حالياً.
ما أردته، وأريده من هذه الجولة في التنميط بالزي، هو التأكيد على أن تمييز هويات البشر على أساس أزيائهم خطأ كبير، وعنصرية بغيضة، وأمر خطير، ودليل مباشر على غياب الوعي، ودليل واضح على ضرورة مواجهة ومكافحة هذا النوع من الحساسيات، وضرورة البعد عن تحميل الحريات الخاصة، ما لا يصح أن تحتمله أبدا؛ فلا «الشماغ» أو «الغبانة» هوية، وليسا كذلك «مزية».
نقلا عن الوطن السعودية