نقصد بالمحكيّة الأسمريّة تلك الألفاظ التي تكلم بها الإنسان الأسمريّ، فلم يكتب بها، أو يستخدمها في معاملاته الرسميّة، وكانت منطوقة إلى فترة قريبة قبل أن يتطور المتحدثون بها، ويخضعون للتأثيرات التي جاءتهم قسرا مع التعليم، والتقنية، والأجانب، وسرعة تطور الحياة، مما جعل كثيرا من تلك الألفاظ يغيب عن ألسنة المتكلمين، ويأتي بدلها ألفاظ المعاصرة، وعبارات الزمن المتحضر.
وبنظرة فاحصة لتلك الألفاظ التي عاشت فترة طويلة في وسط المتحدثين، وباستقصائها من ألسنة من تحدث بها، أو من عاصرهم، نجدها في غاية من الفصاحة، وعلى قدر كبير من التعبير عن حياتهم، ومكونات مجتمعهم، وأدوات عملهم: في الحرث، والزراعة، والصناعة، والمناسبات، وإكرام الضيف، وحمل الأمتعة، وإقامة العبادات.
ومن هذا المنطلق انبرى عدد من أبناء بلّسمر ينبشون الذاكرة، ويعيدون أياما كانوا يقولون فيها، أو يسمعون، وبَرَك بعضهم عند رُكَب الآباء والأجداد يسألهم، ويحاورهم، وسجَّل بقلم الذكريات، وفي صحائف الأيام الماضية، كثيرا من الألفاظ التي يلفظها فيرى أحداث ماضيه بين يديه، وينطقها فيعيش لحظاتها بكل تفاصيلها، وأحسبه تذكر رجالا أفذاذا كانوا زينة تلك الأيام، ونساءً عظيماتٍ كنَّ أنموذج حياة، ومدارسا في التربية، والتعليم، والتضحية، والعمل الدؤوب.
لقد استطاعت تلك الفئة المباركة من الباحثين أن تُعيد هيبة تلك المحكيّة، بذكرياتها، وتفاصيلها، وعبق ماضيها، وتضعَ أمام جيل لم يعش تلك الأيام، ولم يسمع تلك الألفاظ، وأن تربط تلك الألفاظ باللغة العربيّة الفصيحة، وتؤصل للفظ، وتُبين قدرات المحكيّة الأسمريّة في الاشتقاق، والتوسع في اللفظ والمعنى، والوزن اللغويّ السليم، ووضع تلك المحكيّة في مكانها الصحيح من الألفاظ الأصيلة التي تكلم بها العربيّ الأصيل، وإن كانت منكرة، أو مستغربة على هذا الجيل، مما يُعيد ثقة المتحدثين بتلك المحكيّة، ويضع بين أيديهم مرجعا هاما لتحليل محكيتهم، وبيان أصولها اللغويّة، وعلاقتها باللغة العربيّة الفصيحة.
إن فريق العمل في الدراسة اللغويّة الموسومة بـ : المحكيّة الأسمريّة بين التقيد والانفلات، يضعون اللمسات الأخيرة على هذا العمل الذي أخذ على عاتقه حصر ألفاظ المحكيّة الأسمريّة من منطقة (بلّسمر الجغرافية الواسعة)، وربطها باللغة العربيّة الفصيحة، وتطبيق النظريات اللغويّة عليها، مع ربط بين الألفاظ، وأبرز ملامح الحياة الاجتماعية التي أثرت فيها، وتوضيح لملامح الثراء اللغويّ فيها، مما يُعطي عملا متكاملا، وناضجا، ومقاربة لغويّة مهمة، تكون منطلقا للباحثين الجادين في اللهجات والمحكيات خاصة، والدراسات اللغويّة عامة، وتبني للمهتمين منهجا واضحا يمكن من خلاله توسيع تلك الدراسات، أو تعميمها، أو المقاربة والمقارنة، والله الموفق والمعين.