منذ صدور استراتيجية التخصيص في سنة 1998، نكون قد أمضينا 12 عاما، إلا أن البداية الحقيقية لتنفيذ هذه السياسة لم تتحقق إلا في 2003 عند تخصيص قطاع الاتصالات. ومع ذلك حققت المملكة خلالها تقدما ملموسا على صعيد التخصيص في العقد الأول من الألفية الحالية. في هذه المقالة، أحاول أن أسلط الضوء على ما تحقق خلال تنفيذ هذه الاستراتيجية في العقد الأول من الألفية الحالية، وأطالب بما لم يتحقق ليصبح منجزا في العقد الثاني. وسأركز على أهم الأهداف الرئيسة لسياسة التخصيص - وليس كلها - حيث تركز على تخصيص المشاريع والمنشآت والخدمات العامة المناسبة لمشاركة القطاع الخاص، والعمل على إدارة جميع المشاريع المخصصة جزئيا أو كليا وفق أسس تجارية، والتعجيل بمراجعة جميع الأنظمة والإجراءات ذات العلاقة بنشاط القطاع الخاص لغرض توفير بيئة مناسبة.
ولتحقيق تلك الأهداف عملت الحكومة على إنشاء هيئات تنظيمية للقطاعات المستهدفة. حيث أنشأت هيئة لتنظيم قطاع الاتصالات استطاعت أن تنظم القطاع بصورة شجعت على مشاركة القطاع الخاص للاستثمار في هذا القطاع، حيث نجحت في طرح 30 في المائة من أسهم شركة الاتصالات السعودية في 2003، وسمحت بدخول مستثمرين آخرين ليصبح إجمالي عدد الشركات العاملة في قطاع الاتصالات والمدرجة في السوق أربع شركات. كما أنشئت هيئة لتنظيم قطاع الكهرباء والماء، حيث حققت تقدما ملموسا في تنظيم هذا القطاع مع استقطاب الاستثمارات المحلية والأجنبية، ما رفع بشكل كبير طاقة التوليد في هذا القطاع. وحققت الهيئة العليا للسياحة إنجازات ملموسة في تحسين الخدمات السياحية، وما زالت تعمل في هذا الاتجاه بصورة حثيثة. وفي اعتقادي أنها تحتاج إلى مزيد من الوقت لتحسين الخدمات السياحية بصورة مقنعة للسائح المحلي الذي ما زال يتطلع إلى جهد أكبر في هذا الاتجاه. وهناك هيئة الاستثمارات العامة التي ركزت على تحسين البيئة الاستثمارية للمستثمر الأجنبي. ورغم أن الأرقام والإنجازات التي تنشرها هذه الهيئة تحدث فرقعات إعلامية كبيرة إلا أن واقع الحال وما هو ملموس على أرض الواقع لا يشكل انعكاسا لهذه الأرقام والإنجازات. ناهيك عن أن الهيئة لا تنشر إلا الصورة الإيجابية، بينما تتغاضى (أو لا تعمل) لمتابعة ما تحقق على أرض الواقع من استثمارات أجنبية، وهي تستفيد مما يتحقق من استثمارات ثنائية يقيمها رجال أعمال سعوديون مع نظرائهم الأجانب وبجهودهم الذاتية - وليس بجهود هيئة الاستثمار، كما تستفيد مما تحققه الوزارات الأخرى في تحسين بيئة القطاعات التابعة لها دون أن تنسب هذه الأعمال إلى أصحابها؛ ما يجعلنا نجد صعوبة في تقييم منجزات هذه الهيئة بمعزل عن نجاحات القطاعات الأخرى.
ورغم هذه الصورة السريعة لما قامت به هذه الهيئات، إلا أن ما تحقق إجمالا خلال السنوات العشر الماضية من قبل تلك الهيئات يعتبر مهما في تحقيق تنمية مستدامة خلال السنوات العشر الماضية التي تعرضت إلى ست أزمات حادة تمثلت في الركود العالمي في 2001، حرب الإطاحة بصدام حسين، انهيار سوق الأسهم في 2006، انهيار قطاع المال الأمريكي وتبعاته على القطاع البنكي في أوروبا والدول الأخرى، انهيار قطاع المال والعقار في دبي، وأزمة الديون السيادية الأوروبية. ورغم هذه الأزمات العاتية، إلا أنه يمكن القول إننا خرجنا من تلك الأزمات بأقل الخسائر، بصورة تجعلنا نعلن انتصارا في الخروج من كل ما سبق بسلام وبفوائض مالية كبيرة لم نعهدها من قبل، حيث انتهت 2010 بتحقيقنا استثمارات فائضة بلغت 1.7 تريليون ريال، مع نسبة دين ضئيلة تشكل 10 في المائة من إجمالي الناتج المحلي.
إن ما تحقق خلال العقد الماضي، يجعلنا نتطلع إلى السنوات العشر المقبلة بصورة متفائلة مرتكزين على الاستفادة مما حققته تلك الهيئات في إنشاء هيئات أخرى لإكمال عملية التخصيص بصورة أفضل. ولعل أهم الهيئات الملحة التي يستوجب العقد القادم إنشاؤها هي هيئة عليا لقطاع العقارات، الذي يعتبر قطاعا مهما وكبيرا للاقتصاد المحلي، فالقطاع العقاري يفتقد أبا روحيا ينظمه ويضع التشريعات والأنظمة المناسبة له، ويقوم بدور المنسق للجهات الكثيرة والمتعددة المنخرطة في تنظيم هذا القطاع بصفة مباشرة وغير مباشرة. ولعل صدور أنظمة الرهن العقاري سيكون المحفز الأول لإنشاء هذه الهيئة التي يجب أن يكون أول اهتماماتها جمع الأنظمة والتشريعات واللوائح الخاصة بقطاع العقارات وفلترتها وتحسينها بصورة تسهم في جعل السوق العقارية سوقا منظمة تتسم بالإطار القانوني والتنظيمي المبني على معلومات تتسم بالموثوقية العالية، وبالتالي تسمح لجميع شرائح المجتمع بالمشاركة في هذا القطاع بأقل التكاليف الممكنة.
كما نتطلع إلى إنشاء هيئة عليا للمنشآت الصغيرة والمتوسطة تلملم أشلاء هذا القطاع الذي يفتقد الراعي والمرشد والمسؤول الدائم عنه. ولن يتأتى ذلك إلا بوجود هيئة عليا لهذا القطاع الكبير الذي يمس حياة كل المواطنين دون استثناء، فهو الموظف الأكبر للأفراد، وهو المغذي الرئيس لكل القطاعات الأخرى. فالقطاع يحتاج إلى بيئة تشريعية مناسبة، وأنظمة واضحة، وتمويل كبير له القدرة على المشاركة بفاعلية، ليس فقط بالأموال، بل بالنصح والإرشاد.
إنني أعتقد أن نجاح الحكومة في تبني مثل هاتين الهيئتين سيكون داعما كبيرا في حل إشكالات كبيرة، أهمها قضية خفض معدلات البطالة التي تنادي بها خطط التنمية الخمسية، وتوطين التقنية، والحفاظ على الاستثمارات ورؤوس الأموال في الداخل. وهناك هيئات أخرى - لم يغفلها صانع القرار - لكنها من الأهمية بمكان لا تقل عن القطاعات الأخرى، إلا أن التأخير في إنشائها أو تعديل القائم منها سبب تراجعا كبيرا في خدمات تلك القطاعات، وهي قطاع الطيران المدني وقطاع الموانئ وقطاع السكة حديد، حيث إن تعثر مثل هذه القطاعات يجعلنا نحث الحكومة على بذل مزيد من الجهد ليكتمل عقد النمو الاقتصادي الذي نتمنى أن تحتفل به بعد عشر سنوات من الآن ونحن نعيش تنمية اقتصادية وحياة اقتصادية أفضل.
نقلا عن الاقتصادية