يعيش المثقفون العرب أزمة وعي، هي جزء من أزمة الوعي العام التي عاشها العالم العربي / الإسلامي في الماضي، ولا زال يعيشها بتشكلات شتى، وبصور أقسى، في العصر الحديث. ورغم كونها أزمة لا ينكرها أحد على مستوى تجلياتها الواقعية، ورغم كونها أنتجت لنا كل مآسي الماضي، ورغم كونها الخانقة لكل آمال المستقبل؛ إلا أن رصدها والاعتراف بها، على مستوى الوعي خاصة، لا يزال فعلا ثقافيا ثوريا بعيد المنال.
هذه التقلبات وهذا التلون ليس مشكلة لو أنه يُمثل استجابة لاستحقاقات الواقع الإنساني في العالم العربي ، هذا العالم الذي لا زال الإنسان فيه يعيش مرحلة ما قبل الإنسان
المثقفون العرب (على خلاف في مستوى التجوز في إطلاق هذه الصفة: مثقف، على المؤثرين في توجيه الرأي العام) ورغم كونهم المشتغلين على الأزمة بحثا وتحليلا ، هم أحد أهم تجليات الأزمة ، إن لم يكونوا أشدها عمقا ووضوحا ، ذلك أنهم ليسوا عالما معزولا ؛ لأنهم رغم كل محاولات التجاوز ، بل وكل محاولات القطيعة التي يفعلونها أو يدعونها لم يخرجوا من فراغ ثقافي ، ولم يشتغلوا في سياق جدلية التلقي والتأويل على فراغ ، بل كانوا في أغلبيتهم الساحقة نتاجا مباشرا لوعي الجماهير المباشر وغير المباشر ، من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
المثقف هو في الأصل مُنتجٌ إنساني من حيث مُكونات وعيه ( ومن هنا صعوبة إطلاق هذه الصفة على الإنسان العقائدي أو العرقي المتعصب ..إلخ ) ، إنه منتج يمتهن صناعة الإنسان في الإنسان . ولهذا ، حينما لا يكون الإنسان كغاية هو ما يحدد بوصلة اتجاه التفكير عند شخص ما ، يصعب إطلاق الصفة ( = مثقف ) عليه ، مهما اكتنز من المعلومات ، بل ومهما صنع من النظريات ؛ لأن غياب الإنسان كمُحدّد لبوصلة التفكير ، ومن ثمَّ الخيارات ، من شأنه أن يخرق اتساق المنطق العام للتفكير ، ذلك المنطق الذي لا وجود له إلا من خلال اتساق المنطق العام للوجود الإنساني المرتبط ضرورة بمركزية الإنسان.
من الواضح اليوم أن مقاربة أزمة الوعي عند المثقف العربي لا تتم من خلال ما يقوله كتابة في الثقافة العالِمة؛ لأنها لا تعبر بالمجمل عن طبيعة وعيه ، وإنما لا بد كي تتضح طبيعة الوعي بكافة أبعادها من مقاربة ثقافته من خلال المنتج الجماهيري لخطابه ، أي من خلال قراءة أثره على الوعي الجماهيري ، ذلك الوعي الذي لا يزال هذا المثقف يؤثر فيه بقدر ما يتأثر به ، والذي يعكس بكل أبعاده الجدلية حزمة من التأزمات التي ستُحوّل هذا الربيع العربي إلى صيف خانق مشحون بكل مكونات التراجع والانحطاط .
ما تقوله وما تطالبه به هذه الجماهير في سياق هذا الغضب الجماهيري يعكس حالة الوعي العام الذي شارك في صنع المثقف ، كما شارك المثقف في صنعه أيضا . لهذا ، فخطاب الجماهير في هذا السياق ، وكما رأيناه واقعيا ، هو خطاب مشحون بمفردات التنوير ، ومنحاز في صوره العلنية إلى قيم التنوير . لكنه في المقابل مأسور في العمق إلى وعي ماضوي تقليدي ، وعي يستحيل الانعتاق منه إلا بإرادة تتعمد التغيير الشامل والحاسم لكل تفاصيل الواقعة الإنسانية ؛ ليكون الانتقال حقيقيا من زمن التخلف إلى زمن التقدم ، أي إلى زمن الإنسان كما يتجلى في خطاب التنوير.
إذن ، عندما يؤكد أحد المتظاهرين في مسيرة الغضب الاحتجاجي أنه خرج بسبب الفساد والاضطهاد واحتباس أفق التغيير ، ويذكر في عرض سرده لأسباب تظاهره أن ابنه " قد تخرّج منذ خمس سنوات ولا يجد وظيفة" ، وأنه " جالس في البيت كالمرأة " ، فهذا يدل على أن هذا الوعي الاحتجاجي ( ولا أقول الثوري ) وعي غضب لا يعي نفسه ، لا وعي تقدم ، إذ المرأة في هذا الوعي المأزوم هي ذاتها المرأة في عصور التخلف ( وجميعنا يعرف أن المرأة في تلك العصور هي امرأة البطالة والعطالة ، امرأة الحبوس والقيود ) ، لا حق لها في العمل ، ولا حرية لها في التنقل والاختيار ، فضلا عن نفي حقها الطبيعي في المساواة في جميع مسائل الحقوق . أليس مثل هذا التصريح من ( ثائر !) يريد تطهير الواقع من الفساد والظلم ، بينما هو يمارس ظلما أشد وأشمل على مستوى التنظير، وذلك عندما يلغي الحقوق الطبيعية لنصف المجتمع ( = المرأة ) ، يعكس اضطرابا في رؤية تدعي التقدمية ، رؤية تريد الخروج من زمن التخلف ؛ بينما هي تستبطن رؤى التخلف ، بل وتشيد بها من حيث تدري أو لا تدري ؟!.
كذلك ، عندما يُناصر مُثقفٌ ما نظاما قمعيا دمويا كالنظام السوري، ويختلق له المبررات بل والبطولات!، ثم يتباكى على الإنسان العربي المظلوم هنا أو هناك ، وكأن الإنسان السوري الذي تسحقه اليوم مجنزرات النظام البعثي ليس إنسانا ، بل هو مجرد مادة لتثبيت قواعد النظام ، أليس هذا دليلا واضحا على غياب الإنسان ، من ثم على عمق أزمة الوعي التي يعيشها المثقفون العرب هذه الأيام ، حيث لا وجود للإنسان كقيمة في هذا الوعي المأزوم.
إن موجة الاحتجاجات التي اجتاحت العالم العربي هذا العام ، أو ما يسمى بالربيع العربي ، أربكت المثقفين العرب ، لا من حيث طبيعة المواقف ؛ إذ لكل مثقف أن يتخذ الموقف الذي يراه الأقرب إلى توفر المعنى الإنساني ، وإنما من حيث اضطراب الموقف على ضوء ما يستجد في ساحة الأحداث . ولو أن هذا الاضطراب أو الارتباك مرتبط بمجرد إيقاع الحدث لأمكن تفهمه ، لكنه للأسف مرتبط بسياق حالة الانتفاع الشخصي ، سواء كان الانتفاع ماديا من حيث طبيعة العلاقة بالنظام القائم ، أو كان انتفاعا معنويا من حيث ارباط القيمة المعيارية بطبيعة تقييم الجماهير .
مثلا ، في مصر ، وعلى مستوى المشتغلين بالثقافة والفن ، الجميع اليوم هم من أنصار الاحتجاجات ( = الثورة !) التي أطاحت بمبارك ، ومن ثم فهم أعداء ب( الأصالة ! ) لمبارك ولنظام مبارك . ومع أن معظمهم كان منحازا إلى النظام في الأيام الأولى ، أو على الأقل غير مناصر لموجة الاحتجاجات ؛ إلا أنه اليوم يضع نفسه في خندق الثوار ، معددا مساوئ الماضي القريب ( = عهد مبارك ) وساكتا عن مساوئ الماضي البعيد ( = العهد الناصري ) ، مشيدا في الوقت نفسه بأنظمة القمع في هذا البلد العربي أو ذاك ؛ لمجرد أنها أنظمة لا تزال تعيش زمن الشعارات الجوفاء .
هذه التقلبات وهذا التلون ليس مشكلة لو أنه يُمثل استجابة لاستحقاقات الواقع الإنساني في العالم العربي ، هذا العالم الذي لا زال الإنسان فيه يعيش مرحلة ما قبل الإنسان . الإنسان ، من حيث وجوده الفردي العيني الذي يتحقق من خلاله حقيقة عينية ، لا وجود له في الأغلبية الساحقة مما يطرحه المثقفون العرب ؛ لأنهم بدل الاهتمام بهذا الإنسان الموجود حقيقة، اهتموا بالإنسان الوهم، الإنسان الموجود على اليافطات الدعائية، أو المحشو قسرا في صرخات الدعاية الحزبية أو الإيديلوجية العمياء.
نقلا عن الرياض