يعيش السعوديون منذ سنوات قلائل مشكلة «القضية العامة». كل قضية بصرف النظر عن نوعها وحجمها يتم تصعيدها وربطها بحبال المجتمع بطوائفه كافة، ثم تُدحرج على جبل الثلج لتصير في النهاية قضية القضايا. خسارة المنتخب وفرصة التأهل لكأس العالم تصبح حديث الجميع. المدرس يتحدث عنها مع طلابه، والطبيب يخوض فيها مع مرضاه، وإمام المسجد يتناولها في خطبة الجمعة، وجندي المرور يستهلك بها وقته في فترة مناوبته، والكل من هؤلاء ينظّر ويدندن حولها اعتماداً على مرجعيته الثقافية ونظرته العامة للحياة. خطيب الجمعة مثلاً يعتبرها من غضب الرب بسبب صرف الأموال في غير مواضعها التي شرع الله، بينما يظن المدرس أن هذه عاقبة تدليل لاعبي الكرة على حساب فئات المجتمع الأخرى، إذ كيف يتجاوز دخل اللاعب الشهري دخل مربي الأجيال!
في الجهة المقابلة، يعتقد الطالب الجامعي أن نقص الكفاءات الإدارية في اتحاد كرة القدم هو ما تسبب في هذا الخروج المهين للكرة السعودية، والصحافي الرياضي يظن أن نظام المسابقات وطريقة الاحتراف المطبقة محلياً هي السبب في إضعاف مستوى الكرة السعودية وتدحرجها في التصنيف الشهري لـ«الفيفا» إلى خلف الكثير من المنتخبات الحديثة على كرة القدم، والطبيب يتكلم والمحامي يشرّح وموظف البنك يحلل والمهندس يناقش، والجميع يرفعون القضية إلى مرتبة القضايا الشاملة التي يجب تدخل «الديني والسياسي» فيها لإنقاذ البلاد والعباد.
اختطاف فتاة في مدينة الدمام يشعل من جديد الجسد السعودي بكامله. الفتى النجراني يلقي باللائمة على طريقة عيش الفتاة وأسلوب حياتها المتحرر نوعاً ما، ويطالب بتقييد الحريات بشكل يتناسب مع «خصوصية» المجتمع السعودي، والكهل الشمالي يظن أن المختطفين لم يكونوا ليقوموا بهذا العمل الإجرامي لولا الضعف الواضح والصريح في أداء الأجهزة الحكومية المعنية بحفظ الأمن، والبنت الحجازية تدعو إلى تدخل الجيش وقوات الأمن الخاصة للبحث عن الفتاة المختطفة وإرجاعها لأهلها بأسرع وقت، ورجل منتصف العمر في نجد يظن أن خلو المنطقة الشرقية من أماكن صالحة لاجتذاب الشباب وتفريغ طاقاتهم بها هو السبب الرئيس لانحراف العديد منهم وانزلاقهم في منزلقات السوء، والكل يتحدث.
المواطن في القريات والمواطن في الرياض والمواطن في مكة والمواطن في شقراء، والكل يرفع القضية إلى مرتبة القضايا الشاملة التي يجب تدخل «الديني والسياسي» فيها لإنقاذ البلاد والعباد!
يتم الإعلان عن إنشاء ملعب لكرة القدم في جدة ببلايين عدة، فيصيح القلقون أصحاب القضايا الشاملة: لماذا لا توجه موازنة إنشاء هذا الملعب إلى معالجة مشكلة الفقر في بعض أحياء المدن الكبرى؟
يُوقع اتفاق بناء قدرات عالمية لمعهد متخصص في تقنية «النانو»، فيصيح المرتبكون في كل مكان: أما كان أولى لو دعمنا جمعيات تحفيظ القرآن في المملكة بالمبالغ المخصصة لهذا المشروع، بدلاً من استثمارها في فرضيات ذات مستقبل ضبابي؟
يُعلن عن يوم إجازة يسبق اليوم الوطني، فيهتف المتحولون بأعلى الصوت: يحرم النزول إلى الشوارع للاحتفال بهذا اليوم الذي لم يرد شيء في شأنه لا في الكتاب ولا في السنة، ويهتف متحولون آخرون: قربا قطعة «المرفرف» مني... ليس «حبي» يراد لكن «هبالي»!
الكل يتحدث، والكل يختلف، والكل يدعو إلى تدخل «الديني والسياسي» فيها لإنقاذ البلاد والعباد!
كل القضايا الكبيرة والصغيرة التي مرت على المملكة خلال السنوات العشر الماضية تحولت بقدرة مجتمع يتخلق من جديد إلى قضايا عامة ومصيرية.
قيادة المرأة السيارة، وكشف وجه المرأة والاختلاط وساهر والجوال ذو الكاميرا، والبلوتوث، وغيرها من مئات القضايا. وأسهم في هذا الزخم التصاعدي الذي يتناسل بعضه من بعض بملامح واحدة لا تتغير، الثورة الاتصالية الرهيبة التي حملت كل الأصوات المفردة إلى فضاء واحد، جاعلة منها أدوات ضغط جماهيرية نحو النهاية الشمولية المتشابهة في كل الحالات!
وأظن أن وراء هذه «السيامية» الانفعالية أربعة أسباب رئيسة:
الأول: فترة الركود الاجتماعية الطويلة التي عاشها المجتمع السعودي قبل ثورة الاتصالات، والتي أسهمت في تنامي طاقته الكامنة التي لم تبخل على نفسها بالانفجار العشوائي عندما وجدت الفرصة المناسبة لانعتاقها.
والثاني: محاولة النخب السعودية لسنوات طويلة سحبَ وطرقَ المجتمع السعودي في قالب واحد، على رغم تمايز واختلاف مكوناته ثقافياً ومذهبياً واجتماعياً.
والثالث: تحول كل مواطن بصيغته المفردة إلى جهاز إرسال قادر على الوصول إلى آلاف المستقبلات؛ بفضل التسارع الرهيب في تكنولوجيا الاتصالات.
والرابع: الصراع المتنامي ما بين ماضي العادة والتقليد، ومستقبل المدنية والانفتاح، وصعوبة القياس على المتقدم تكنولوجياً من غير دين، والمتخلف حضارياً بدين ظاهر.
يظن الكثيرون أن هذه الفوضى التي ترمي دائماً حيرتها على «الديني والسياسي» هي مشكلة نهائية بحاجة إلى حلّ عاجل، وأظن أنها مشكلة مرحلية ليست إلا نتاجاً لمجتمع يودّع ماضياً ما، ويتحضر لمستقبل ما.
إنها السعودية القديمة التي تنزع جلدها لتدخل العالم الجديد.
* كاتب وصحافي سعودي
نقلا عن الحياة اللندنية