لا أظن أننا بحاجة إلى إراقة المزيد من الأحبار لإثبات وتأكيد حالة البطء والجمود التنموي التي تعيشها المجتمعات العربية، التي تدور منذ عقود، في ذات الحلقة المفرغة، في ظل قصور واضح في التنظيم والتخطيط والإدارة! فبغياب ثلاث وظائف هامة هي التخطيط والتدريب والرقابة ليس غريبًا أن تتذيل الدول العربية القائمة العالمية إداريًّا، لتصبح أزمة الإدارة في العالم العربي، من أكبر وأخطر معوقات التنمية.
• ثمة مقولة شهيرة تؤكد على أنه ليس هناك دول متخلفة بطبعها.. بل دول فشلت في إدارة مواردها.. وهذا صحيح.. فالإدارة في العالم العربي رغم إمكانياتها الضخمة مازالت تعاني من اعتمادها على الجانب العاطفي، وفلسفة الولاء الشخصي التي تلغي التنافس النزيه بين العاملين، وتبقى المؤسسة في حالة جمود وقصور إداري تقل معه الإنتاجية إلى حدودها الدنيا، وتصبح المؤسسة برمتها قابلة للسقوط في أية لحظة، ذلك أن آليتها الداخلية تكون آلية كابحة لا دافعة.. والمؤسف أن الأوطان هي من تتحمّل تبعات هذه الأخطاء الإدارية والفكر القاصر من حيث تدني مستوى الأداء، وتعطل التنمية.
• حتى عهد قريب كانت النماذج الإدارية مرتبطة بجزء من ثقافة المجتمعات المنغلقة على نفسها، حيث تم تقديم تجارب عديدة مثل التجربة اليابانية والصينية وغيرها على أنها نماذج يحتذى بها في الإدارة.. لكن مع سقوط الحواجز بين الثقافات، وانتهاء عصر الانغلاق، لم تعد الإدارة مدرسة خاصة بمجتمع معين.. بل انعكست عليها فكرة العولمة لتصبح تجربة عالمية لها أسس ومبادئ متفق عليها في جميع أنحاء العالم، متخذة من الأسلوب الاقتصادي منهجًا لتحقيق الرفاهية الاجتماعية، ومن هنا أصبح على كل القيادات الإدارية أن تُفكِّر وتعمل بحس إنتاجي وألّا يغلب عليها الطابع العاطفي أو الفكر الفردي.. كما اتجهت الإدارة الحديثة إلى تغيير أساليبها أيضًا، واستثمار كل ما لديها من موارد بشرية على أكمل وجه وبأفضل الوسائل، من خلال تفجير كل الطاقات لكي تعطي أقصى وأفضل ما لديها.. وهذا يتطلب من القيادة الإدارية المساواة وتوفير احتياجات العاملين الضرورية، والتعامل معهم على أنهم بشر لهم حدود دنيا من الاحتياجات التي لابد من توافرها وعدم إهمالها، حتى تتحقق أكبر استفادة ممكنة من هذه الطاقات البشرية.
• لا شك -عزيزي القارئ- أنك قد استحضرت من خلال كل ما تقدم، صورة ذهنية أو موقف سابق مع ذلك المدير التقليدي الذي تراه -في بعض الإدارات- قابعًا خلف أكوام من الورق المتناثر على مكتبه الفاخر.. متوهمًا أن كثرة الأوراق شاهد له ولحجم عمله!! حين تقف أمام هذا المسؤول المتورم منتظرًا أن يتلطف عليك بتمرير معاملتك، بينما هو يتذوق فنجانًا من الشاي السيلاني الفاخر، فاقدًا لأدنى حدود التعامل الإنساني، راسمًا في خياله أسطورة القائد وجيشه النشيط العامل تحت شعار هو "الموت لمن لم أحب" مطلقًا لغروره وطغيانه أن يتسيدا الموقف.. عندها فقط تدرك أن الإدارة تعد بحق أخطر وأصعب وأكبر معوقات التنمية في المجتمعات العربية.
نقلا عن المدينة