الصراحة قيمة أخلاقية أصيلة في الثقافة العربية، نابعة من الطبيعة الصحراوية الممتدة التي عاش العربي فيها فطبعته بطابعها ووسمته بميسمها وشكلت الصراحة نظامه الاجتماعي الذي يحافظ عليه، والصراحة تحقق البناء النفسي السليم الذي يتميز به المرء، ومعروف أن تطابق السلوك الخارجي للشخص مع سلامة نفسه يؤدي إلى صحته الذهنية، بينما يؤدي الاختلاف بين دخيلة المرء النفسية وسلوكه الظاهر إلى تعريضه للتوتر والانحراف في سلوكه، فالصراحة تبني الشخصية المتوازنة وتبعدها عن الازدواج وكبت الرغبات وعدم الإفصاح عما في النفس من مشاعر وأفكار، ولا سيما في سن التكوين الأولى للشباب.
وأما القسوة والإرهاب اللذان يمارسهما بعض أولياء الأمور والآباء على أولادهم في المراحل الأولى من حياتهم فذلك ما يولد لديهم الكثير من مشاعر الخوف والفزع، كما يربي فيهم مشاعر التردد في آرائهم، فمن ينشأ في جو قهري يكتسب شخصية مهزوزة مريضة نفسيا مصابة بداء السلبية والانهزام وبالغباء والكسل، وأظهر كل ذلك المراوغة في الحديث وعدم الصراحة بما في نفسه وخوفه وخجله ممن حوله، و من جهة أخرى فإن القهر الذي يعيش فيه من هذه حاله يمكن أن يحوله إلى شخصية شريرة مدمرة لديها رغبة الانتقام من الناس والكره لهم.
أما الذين يربون على الصراحة فإنهم ينفرون من الركود والنمطية والرتابة التي تعمل على صب الناس في قوالب معدة لهم من قبل، وحياتهم تتميز بالتجديد والنمو والاختلاف، والإنسان الصريح عندما يصف الأشياء أو يعبر عن الآراء فإنه يكون صادقا مع نفسه ومع الناس يعبر بغير مؤاربة أو خوف أو اصطناع ويكشف عن ميوله وآرائه بغير تهيب، متمتع بالثقة في النفس فيما ينحو إليه ويأخذ به ويبديه وفيما يقيمه من علاقات مع الآخرين أيا كانوا.
والاعتداد بالنفس والكرامة والتحدي عند الضرورة مطلب لبناء الشخصية المتزنة السليمة التي يحتاجها الإنسان في كثير من المواقف وفي بعض الظروف الحرجة التي يتعرض لها حين لا يجد بدا من المواجهة، وقد ذهبت القرون ولم تذهب فضيلة الصراحة حين تؤيدها الشجاعة والرأي الحازم الذي يمنع الإنسان من الذل والهوان وتمرير الآراء التي لا توافق هواه ولا رضاه، وهي حبل النجاة الحقيقي للمجتمع من شرور المنافقين والمتملقين والمترددين، ولذلك فالصراحة من مكارم الأخلاق التي يتحلى بها العربي في كل وقت وهي التي تمنع التدهور والانهيار الأخلاقي، فإذا كان الكذب والنفاق هما الظلمة الحالكة فإن الصراحة والوضوح والكشف والعلانية هي النور الذي يسير على ضوئه السائرون.
والتربية الحديثة تؤكد ضرورة تعويد الشباب على الصراحة فيما يعترض حياتهم من مشكلات، كما أن مسؤولية المجتمع ودوره في إبراز إيجابيات السلوك وتنمية الشخصية الناقدة يعطيان المقدرة على تقويم الحال ويمنحان الرؤية النقدية للأمور، ويجعلان الإنسان قادرا على مواجهة الواقع بجرأة وشجاعة، ليس هذا فحسب، بل إنهما يدربان الناشئة على استقلال الذات المبدعة.
أما التربية التي تعتمد التلقين أو بتعبير أدق تعتمد قولبة الناس في قوالب معدة لهم من قبل فهي تربية تحارب الصراحة وتطمس معالم الشخصية وتمنع الاستقلال والإمكانات الفطرية وإخراجها من حيز الكمون إلى حيز الواقع الملموس. التربية الصحيحة هي التي تضع في اعتبارها الفروق الفردية بين الأشخاص، وتعتبر كل فرد وحدة قائمة بذاتها، هذه التربية لا تنتج نسخا مكررة، بل تعتبر كل شخص نسيجا وحده وتسمح له بالتعبير عن نفسه بصراحة وانطلاق دون إلجام أو تقييد.
نقلا عن صحيفة مكة