یقولون «إذا أفلس التاجر فتش في دفاتره القدیمة»، ودفاتر الماضي البعید مملوءة بما یستحق أن یكون حدیث الحاضر حتى ولو
من باب التأسي بھ، ومن أفلست دفاتر حاضره لا بد أن یبحث في دفاتر ماضیھ لعلھ یجد شیئا مفیدا لھ أو مخففا لما یعانیھ من
.العجز والقھر وقلة الحیلة
عندما كان العرب ھم القطب الوحید في العالم وصلوا إلى الصین ومدوا سلطانھم على غرب آسیا بكاملھا ودخلوا أوروبا من
بابھا الغربي الأندلس، وھم یظنون أن غیرھم لا یستطیع مواجھتھم أو رد تقدمھم في الشرق والغرب. مر الصمیل بن حاتم بمعلم
یتلو القرآن فسمع «وتلك الأیام نداولھا بین الناس « فاعترض وأمره أن یقرأ للصبیان: «وتلك الأیام نداولھا بین العرب»، ظن
أنھ لا یمكن أن یكون الأمر في الدنیا لغیرھم ولا منافس لسلطانھم إلا منھم، یرى الصمیل بن حاتم أنھ لا بأس أن یختلف العرب
على قیادة العالم وأن تكون الأیام مداولة بین عرب الشمال وعرب الجنوب، ولكن لیس بین الناس كما سمع المعلم یقرأ فاعترض
.«وامتعض و»صحح
فطن الساسة المنتصرون لخطورة القطب الواحد، وعملوا على قیام أقطاب في الداخل لوضع التوازن المطلوب، فنشط النسابون
في عصر بني أمیة وبرعایة الخلیفة وتأییده لفكرة الأحزاب وتعدد الأنساب والأحساب واختلاف الدیار في جزیرتھم قبل أن
تدفعھم انتصاراتھم إلى خارجھا، فقسم النسابون العرب إلى عدنانیة وقحطانیة، وعاربة ومستعربة، وعرب للشمال وعرب
للجنوب، وأوقدت السیاسة الأطماع بینھم لیكون بأسھم شدیدا على أنفسھم، وشجع بنو أمیة قبائل العرب على الاختلاف بین
القحطانیة والعدنانیة وجعلوا تداول الأیام بینھم، فیوم للقحطانیة ویوم للعدنانیة على أساس ھذا التقسیم، حتى تكون أمیة ھي
واسطة العقد ویكون الخلیفة ھو الحكم المرضي بینھم، وفي رأي الخلیفة أن التقسیم لا یضر ما كانت الغلبة عربیة والعصبیة
.عربیة، ولم تعلم السیاسة أنھا زرعت بذرة الفرقة والتناحر واختلاف الحال إلى الأبد
الیوم عادت لغة عرب الشمال وعرب الجنوب بمساحة واسعة من یومیات المغردین المعاصرین من كلا الحزبین، وأعید
مصطلح عرب الشمال وعرب الجنوب، وبعثت الفتنة من جدید، وتبادلوا الأسماء والصفات ذاتھا في كل ما یكتبون لكن بغیر
.شجاعة أسلافھم ولا قوتھم
الفارق ھو الحال الذي كان علیھ الأولون، لأن عرب الشمال وعرب الجنوب كانوا یختلفون على قیادة العالم وغلبتھ واقتسام
خیرات البلاد المفتوحة، وكان التنافس بینھم على ذلك، وقف أحدھم على ساحل المحیط الأطلسي، بحر الظلمات كما كانوا
یسمونھ، وضرب بعصاه وقال: لو أعلم أن وراءك أرضا وبشرا لخضت عبابك إلیھم، ھذا حال عرب الشمال وعرب الجنوب
في دفاتر تجار العرب المفلسین الیوم یفتشونھا، فیجدون فیھا ھذا الرصید الذي یقرؤونھ بحسرة، ویعرفون لماذا فرطوا بھ
وكیف تحولوا إلى البحث في دفاتر الإفلاس المعاصر عن شيء مفید لھم أو مسل ومخفف من ھزائمھم التي لا یستطیعون
.الخلاص منھا
عرب الشمال الیوم وعرب الجنوب لیسوا أولئك الذین یقتسمون القوة ویحارب بعضھم بعضا على قیادة العالم وسیادتھ، عرب
الشمال وعرب الجنوب الذین یثیرون المصطلح التاریخي الیوم یقاتلون على الولاء والصداقات الوھمیة والمرحلیة والتبعیة
.للغرب أو للشرق الذي یمسك بزمام القوة والقدرة والتفوق، ویعلنون ولاءھم لھذا المعسكر أو ذلك المنافس لھ
عرب الیوم في الشمال والجنوب غیر عرب الأمس، عرب الیوم ینقسمون إلى موال وأتباع وطوائف وأحزاب تحركھم حبائل
.أعدائھم ضد مصالحھم ووجودھم، ویسمعون ما یملي علیھم أعداؤھم فیأخذون ویطیعون ویصدقون، وبأسھم على أنفسھم شدید
نقلا عن صحيفة مكة