مرة هنا وفي غير موضع، ذكرت أن دولة المواطنة تسع لأن يعيش الإنسان في سلام، بقطع النظر عن جنسه ولونه ودينه، وأنها الضمان للعيش المشترك، وأن فرقا دقيقا موجود بين «المواطنة» و«الوطنية»، وأن العقائد ليست من اختصاصات الناس، وأنه لا يوجد عرف، أو دين، أو عقيدة، أو فكر يبرر خيانة الوطن، والعمل ضده، حتى لو شعر المرء بالمنغصات في وطنه، وأن تقريب العقول «النظيفة» من طاولات النقاش، دونما وصايات فكرية، أو حواجز وهمية، أمر لازم، وأن صلاح الدنيا في حاكم مهاب، ووطن قوي تعيش تحت سمائه مختلف الأطياف، في وحدة تامة، وتآخ كامل.
الجديد هذه المرة، التأكيد على أن المواطنة تعني كذلك معيشة الناس بسلام مع بعضها البعض في وطن واحد؛ رغم الفوارق والاختلافات، وأخص المقال باختلاف الأديان بين الناس؛ لأنها مسألة تحتاج لبعض التوقف، ولأن المتعجلين في الأحكام، عندما تمر عليهم آيات أساسيات المواطنة، لا يفهمونها حق الفهم، ويظنون ويجزمون بتعارضها؛ فيستدلون بقوله تعالى في الآية 28 من سورة آل عمران: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذٰلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاةً ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير}، وبقوله، سبحانه، في مفتتح سورة الممتحنة: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل}؛ على النهي عن بر وموالاة وتقدير المختلف معهم في الدين، ويتم التغافل تماما عن آيات شريفة، وتطبيقات عملية صريحة أخرى، مثل الآية 5 من سورة المائدة: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين}، والآية 7 من سورة التوبة: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين}، و الآيات من 7 إلى 9 من سورة الممتحنة: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودةً والله قدير والله غفور رحيم * لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا علىٰ إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولٰئك هم الظالمون}..
أختم بالتطبيقات العملية التي نوهت عنها سابقا، وكلها ثابتة في الحديث الشريف، وأذكر منها استعارته- صلى الله عليه وسلم- من صفوان بن أمية، وهو مشرك وقتها، ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعا، ليوم حنين، وأمره لصاحبه سيدنا سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، بأن يأتي الحارث بن كلدة، وهو مشرك، ويستوصفه في مرض نزل به، كذلك رهنه- صلوات الله عليه- درعه عند «أبو الشحم» اليهودي، بعشرين صاعا من طعام أخذه لأهله.
نقلا عن الوطن السعودية

