لو قام شخص ما بإجراء عملية حسابية يجمع من خلالها ميزانيات المجالس البلدية وهيئة مكافحة الفساد وهيئة حقوق الإنسان وجمعية حقوق الإنسان وجمعية حماية المستهلك وهيئة الصحفيين السعوديين لاكتشفنا أننا نصرف على مؤسسات المجتمع المدني مبالغ تفوق ما تصرفه السويد على مؤسسات المجتمع المدني!، ولكن الحصيلة عندنا أقرب ما تكون إلى الصفر المربع؛ لأننا بنينا الهياكل ولم نركز على الأهداف، فخسرنا المال والوقت والفرصة التاريخية. نحن نحب أن لا نواجه أنفسنا، خداع الذات هو من أقدم هوايتنا، يؤلمنا أننا لا نواكب العصر فنشتري العصر ونضع له إطارا مذهبا باهظ الثمن، ثم نمضي إلى حال سبيلنا دون أن ننتبه إلى أننا حبسنا زماننا في إطار خشبي، ومع مرور الأيام نقنع أنفسنا بأننا لا نتطور؛ لأننا مصابون بالعين، أو لأن المجتمع جاهل، أو المسألة تحتاج المزيد من الوقت. ومن الذي يستفيد من هذه الحالة؟، بالطبع هم بعض القائمين على هذه المؤسسات أو الجمعيات الذين يجدون فيها (سبوبة) ــ كما يقول إخوتنا في مصر ــ وهؤلاء يتم اختيارهم في الغالب على أساس الواسطة لا الكفاءة، فيتحولون إلى موظفين في جهات مرموقة غير منتجة، ويقضون جل الوقت في تعيين الأقارب كي يعم الخير كافة أفراد العائلة، وقد قرأت أكثر من مرة مطالبات لجمعية حماية المستهلك وهيئة مكافحة الفساد وجمعيات أخرى بزيادة الموظفين وافتتاح أفرع جديدة إلى درجة تخيلت فيها أن هذه المؤسسات سوف تتحول مع مرور الأيام إلى وزارات تحتاج إلى مؤسسات مدنية رديفة كي تراقب أداءها، وبالطبع تحتاج هذه المؤسسات الجديدة إلى دعم و موظفين. ولكي ندرك خطورة هذا السلوك الغريب، علينا أن نراجع أداء الجمعيات الخيرية التي تعتبر من أقدم المؤسسات الأهلية في بلادنا، فهي تملك أموالا بالمليارات بفضل تبرعات المحسنين وأهل الخير، ولكن هذه الأموال الهائلة لم تساهم في يوم من الأيام في تحسين أحوال الفقراء، حيث لا نكاد نرى لها جهدا يذكر إلا من خلال توزيع بعض المواد الغذائية خلال شهر رمضان المبارك، وهي تفعل ذلك في الغالب لذر الرماد في العيون.. وآه من ذر الرمد والرماد في العيون، فهو السبب الأساسي في غياب مؤسسات المجتمع المدني، حيث أغلقت العيون وبقيت أطنان الرماد مكدسة فوق كل الجفون!. لو كان الوضع طبيعيا لتطور حال مؤسسات المجتمع المدني، وأصبحت هناك جمعية للمعلمين، وأخرى للأطباء، وثالثة للمهندسين، ورابعة للمحامين، ولحظيت الجهود التطوعية الشبابية الرائعة بجمعيات وأندية تساهم في تطوير وتنظيم نشاطها، ولكن روح المقاولين في داخلنا طغت على روح العمل التطوعي، وهواجس المصالح الشخصية والعائلية انتصرت على هواجس خدمة المجتمع، فوصلت جمعياتنا الأهلية إلى هذا الحال المؤسف، يا للأسى.. لم يعد ثمة مبادرة لإنقاذ مؤسسات المجتمع المدني من هذا الواقع البائس سوى بعض الهمهمات المتذمرة، حتى هذا المقال بدا لي لحظة الانتهاء منه أنه ليس إلا حلقة في سلسلة ذر الرماد في العيون!.
نقلا عن عكاظ

