أينما يذهب سمعك أو بصرك تجد كلمة (الحوار) شاخصة مثل شجرة تضم الغابة كلها.. الفضائيات تتبارى في نهبك إلى حواراتها، وتسابقها المقالات والصحف وكل من هب ودب.. ولكن هل صادفت في كل هذه الحوارات/ الضوضاء من يقول لك: ما هو الحوار؟ على أي كيفية يتم بين الأفراد أو المجتمعات أو الحضارات؟ لا.. أبداً.
الحوار يتطلب أن يكون المحاور على قناعة بأن الحقيقة ذات وجوه متعددة، وأنه غير ملم بكل هذه الوجوه التي يلم بها غيره، فهل يتوافر هذا في الحوارات؟ كلا، فالذي يتوافر فيها يدخل إلى ساحة الحوار وهو ينشد:
جاء شقيق عارضا رمحه
إن بني عمك فيهم رماح
يقول ريمون بانيكار عالم اللاهوت الهندي- الأسباني:
«الحوار هو السبيل إلى معرفة ذاتي ولتخليص وجهة نظري وفرزها عن الآراء الأخرى (وعني) لأنها متأصلة عميقا في جذوري بحيث إنها تكون خافية علي كليا والطرف الآخر هو الذي يوقظ عن طريق تلاقينا هذا العمق الإنساني الكامن في، في محاولة تتجاوزنا معا، وهذه العملية تكون متبادلة في الحوار الأصيل».
هنا يرتقي مفهوم الحوار عند بانيكار إلى مفهوم الجدل الفلسفي أي خروج كل من المتحاورين وقد تغيرا معا وبلورا معا فكرة عن الموضوع تغاير فكريتهما اللتين دخلا بهما إلى ساحة الحوار.. فهل رأيت مثل هذا الحوار حتى في الأساطير العربية؟
أما البروفسور ليونارد سويرلر وهو مؤسس ومدير المعهد العالمي للحوار فقد وضع وصاياه العشر للمتحاورين وقد قرأت تلك الوصايا عدة مرات محاولا أن أجد ولو واحدة منها تنطبق على محاورينا في الساحة العربية فلم أجد سطرا واحدا ينطبق عليهم وبدلا من عرض تلك الوصايا التي لا يمكن عرضها هنا فقد لخص هو نفسه مضمونها بقوله: ((لا أحد يعرف كل شيء عن أي شيء))..
وقد سبق كل هؤلاء الذين خاضوا في تحديد الحوار وأبعاده أفلاطون قبل قرون إذ قال: ((الجدلي هو الذي يحسن السؤال والجواب وغايته الارتقاء من تصور إلى تصور ومن قول إلى قول للوصول إلى أعم التصورات وأعلى المبادئ)).
«لا أحد يعرف كل شيء عن أي شيء».
هل تؤمن بهذه المقولة؟ أراك معرضا بوجهك عن الإجابة بل أرى الغبار يتطاير من تحت قدميك من شدة الركض هربا منها، وهذا ليس محل غرابة فأنت هنا تدافع عن نفسك وعن غرورها الداخلي في أنك تعرف كل شيء عن أي شيء، ومن هنا تتولد عند من لا يؤمنون بهذه المقولة الإجابات المسبقة عن أي سؤال يطرح في الحوار أو في غيره.
نقلا عن صحيفة اليوم السعودية
