السؤال المحفز لهذه المقالة في صيغته الكاملة هو التالي: هل أصبحت الضيافة نتيجة للتغيّرات الحديثة محصورة في المجال العام؟ أعلم أن السؤال مركب وربما غير واضح في صيغته الحالية، لذا فخطتي هنا أن أقوم بمحاولة شرحه على أمل الانتقال بعد ذلك لمحاولة الإجابة. السؤال يفترض حدوث تغيير في شكل الضيافة على الأقل نتيجة تغييرات كبيرة في حياة الناس. التغييرات التي أحيل عليها تتمثل في توفر الكثير من الخدمات، التي كان الناس يبحثون عنها في بيوت الآخرين، في القطاع التجاري: في السوق. بمعنى أنه بالنسبة لكثير من الناس لم تعد هناك حاجة للبحث عن مضيف في المدن التي يغترب لها أو يزورها. الأمان والطعام والسكن أصبح من السهل توفيرها في الفنادق والمطاعم المنتشرة في كل المدن. الأمان أصبحت تتولاه جهات حكومية منتشرة بشكل معقول في غالب مدن العالم. قلنا سابقا إن الضيافة هي استجابة من الذات لحاجة الآخر.
اليوم حاجة الآخر اختلفت. لا يعني هذا أن الآخر لم يعد لديه حاجات. بالعكس هذه الحاجات لا تزال موجودة لكنها انتقلت إلى مجال آخر وقد يعني هذا أن الضيافة ستنتقل معها كذلك. مع تعقيد المجتمعات المعاصرة وتطور مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني أصبح غالب الناس يتطلّعون لهذه المؤسسات لحل مشكلاتهم ومساعدتهم. الناس التي تعاني المجاعات أو الفقر مثلا تبحث عن حل في المؤسسات العامة. لا يعني هذا بأي شكل من الأشكال أن العلاقة بين الأفراد قد انقطعت. أبدا ولكن هذه العلاقة أصبحت تتم داخل المؤسسات العمومية بدلا من الفضاءات الخاصة. مع كل صباح يتوجه الناس إلى المؤسسات العامة لقضاء حوائجهم. الطالبة تتوجه إلى المدرسة للحصول على التعليم. المريض يتوجه إلى المستشفى للحصول على علاج. الآخر يتوجه إلى الشرطة أو القضاء للحصول على الإنصاف. إنسانة أخرى تتوجه إلى وزارة الشؤون الاجتماعية أو الجمعية الخيرية الخاصة للحصول على مساعدة مالية. في المقابل أخريات وآخرون يستيقظون كل صباح لمساعدة المحتاجين: المعلمة تسعى إلى مساعدة طالباتها، والطبيب لمساعدة مرضاه، والشرطي لمساعدة المواطنين، وموظف الجمعية الخيرية يستقبل طلبات المحتاجين للمساعدة. في هذا المشهد لا تزال الحاجات موجودة ولا يزال اللقاء بين الأفراد هو طريق تلبية هذه الحاجات. الذي اختلف أن "مكان الضيافة" قد انتقل إلى المجال العمومي بدلا من المجال الخاص في بيوت الناس. ولكن: هل يعني هذا أن البيوت الخاصة لم تعد مكانا للضيافة؟ كيف ومناسبات الضيافة في بيوت الناس واستراحاتهم ما زالت منتشرة؟
لا بد هنا من توضيح قضيتين: الأولى أن الصورة التي تم رسمها في بداية المقالة تصف التحول "الكبير" وليس التحوّل "الكلي"، بمعنى أن المسألة نسبية ولذا فالبيوت لا تزال بالتأكيد وجهة لأصحاب الحاجات، ولكن النسبة انخفضت مقارنة بالماضي.
القضية الثانية أن المناسبات التي تقام هذه الأيام في البيوت يمكن التفريق بينها وبين الضيافة بمعناها الأساسي. الضيافة بمعنى استقبال الغريب وعابر السبيل ومن لا نعرف انحسرت كثيرا. غالب المناسبات اليوم يدخل ضمن التواصل والترفيه الاجتماعي. بمعنى أنها مناسبات لقاء بين أشخاص يعرفون بعضهم بعضا ويلتقون للاستئناس والتواصل أكثر من كونها تلبية لحاجات ماسّة يمر بها الآخر. إذا كانت هذا التوصيف دقيق فإنه يعزز من توجّه الضيافة أكثر إلى المجال العام، بمعنى أن المساحة الأكبر لضيافتي كفرد موجودة في عملي في المجال العام، أكثر منها في بيتي ومجالي الخاص. في المجال العام أواجه فعلا من لا أعرف ومن يحتاج إلى مساعدة حقيقية. هناك نواجه واقع الباب المفتوح والآخر الذي لا يحتاج حتى إلى دعوتنا. الآخر الذي قدم بحثا عن حقه تدفعه ثقة هي الأساس المعنوي للضيافة.
انتقال الضيافة إلى المجال العام يحمل معه قضايا كبيرة تتعلق بالتغيير الذي ينال الضيافة ذاتها بعد هذا الانتقال. من أهم هذه القضايا أن المجال العام مجال حقوقي. أي أن الفرد منا حين يتعامل مع الآخرين في وظيفته العامة فهو يتعامل مع أصحاب حقوق حسب منظومة قانونية محددة. التعامل القانوني يدخلنا في سياق الضيافة المشروطة حسب تعبير دريدا. أي أن العلاقة بين الطرفين قد تم تحديدها مسبقا من قبل القانون ولم يبق عليهم سوى التطبيق. المضياف يعلم أن الضيافة لها قانونها وأنها ليست اعتباطية ولكنه أيضا يعلم أن هذا القانون قانون داخلي ذاتي، لا قانون مفروض من الخارج. هذه قضية تحتاج مناقشة مطولة وسأكتفي هنا فقط بالإشارة إليها. القضية الأخرى تتعلق بمدى الحاجة أصلا للضيافة في مجال يفترض أنه منظّم حقوقيا وقانونيا. بمعنى آخر أنه يمكن أن يقال إننا لا نحتاج إلى الضيافة في المجال العام. المطلوب من الموظّف هو أن يقوم بعمله الذي يحدده النظام. هذه قضية مهمة جدا وتحتاج إلى نقاش مطول في مقالات لاحقة. الفكرة الأساسية في هذا المقال هي أن التغييرات المعاصرة في الحياة المدنية للناس وتطور وانتشار المؤسسات العامة جعلت من المجال العام الأفق الأكبر للاستجابة لحاجات الناس. الضيافة هنا تتحرك مع حاجات الناس وبالتالي تتواجد في المجال العام كذلك. هذا يعني أننا نحتاج إلى نقل التفكير في الضيافة إلى المجال العام استجابة لهذا التحول.
- الجزائر وقطر توقعان اتفاقية لإنتاج الحليب المجفف بتكلفة تفوق 3.5 مليار دولار
- تسليم الفائزات بجائزة الأميرة نورة للتميُّز النسائي
- الورد يستهدف إنتاج ملياري وردة بحلول 2026م
- الجامعة الإسلامية بالمدينة تنظم “مهرجان الثقافات والشعوب” الثاني عشر
- اكتشاف 454 كويكبا جديدا في النظام الشمسي
- اللجنة الوطنية للأسماء الجغرافية تعقد اجتماعها التاسع في الجيومكانية
- توسعة وتطوير مطار الأحساء الدولي ومطار الرس
- المجمع الفقهي الإسلامي يصدر قرارات وبيانات في عددٍ من القضايا والمستجدات في ختام دورته الـ 23 clock-icon الثلاثاء 1445/10/14
- الأعلى للثقافة يستضيف جائزة الشارقة للإبداع العربي – الإصدار الأول في الدورة (27) العام 2024
- الصندوق السعودي للتنمية يوقّع اتفاقية تنموية لدعم المؤسسات المتوسطة والصغيرة بسلطنة عمان
عبد الله المطيري
هل انحسرت الضيافة مفهوما وممارسة
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.alwakad.net/articles/1925840.html