لم تعد تهمني كثيرا الكفاءة في المنصب قدر ما تهمني النزاهة، فالكفاءة ليست بذات الأهمية في المناصب، وأنا لا أنطلق هنا من فذلكة لغوية أو إدارية، وإنما من تجربة حقيقية ولسبب بسيط ومبرر وهو أن سقف السلطة في المنصب قد يكون متدنيا أو أقل من مقاس المسؤولية، وهو ما كرسه نظام الخدمة المدنية والأنظمة الأخرى الحاكمة في إدارة التنمية، وبالتالي فإن هذه الكفاءة غالبا ما تذوب في مكونات الإدارة وبيروقراطية الأنظمة وليس العكس، وهذا هو السر في تفسير ما يقوله صاحب المنصب قبل أن يتقلد منصبه وما يفعله بعد تقلده، وبالتالي فإن الوزير المبدع على سبيل المثال غالبا ما يقف بموازاة الوزير العادي (عديم المواهب) وتذوب الفوارق الوظيفية إلى أدنى درجة لها، والنجاحات التي تتحقق أحيانا لبعض الوزراء لا تعبر عن معيار الكفاءة الشخصية بشكل مطلق رغم وجود وتوفر هذه الكفاءات حقيقة، وإنما تأتي عن ظرفية التقاء طبيعة النشاط مع فطرة الوزير (الإدارية) والدليل أن بعض الوزارات لم ينفع معها إبداع المبدعين ولم يضرها فشل الفاشلين كوزارة الصحة (نموذجا) كما أن بعض الوزارات حافظت على هويتها القديمة وجمودها المطلق ولم يتغير أداؤها أو تتبدل هويتها رغم تغير ألوان طيف الوزراء الذين تعاقبوا على هرمها على مختلف مذاهبهم الإدارية ونزعاتهم الفكرية ونكهاتهم الوظيفية، ورغم أن التطوير كان شعارهم الأول والأخير آنذاك فإن هوية الوزاره العتيقة وظلالها الخفي استطاع طمس الهوية الإبداعية أو الفكرية لكل منهم كالتعليم (نموذجا).
أما في مجال النزاهة فإن المساحة تبدو مختلفة تماما ومتاحة لتحقيق مثل هذا الفارق من خلال هذه المناصب لأن السقف في الأنظمة والتشريعات هنا يبدو مختلفا ومقلوبا هو الآخر في هذا المجال تحديدا وهو ما يدعو للغرابة، فهو قابل للارتفاع أو الانخفاض بدرجة أكبر وبطريقة مطاطة وعلى قدر شطارة ومهارة صاحب المنصب ونزعته نحو الإثراء غير المشروع من عدمه لتحقيق أكبر قدر ممكن من استغلال السلطة والتي تكرست مظاهرها ومفرداتها الوظيفية مع الزمن كجزء من مميزات الكرسي وإكسسوارته وأصبح ينظر لها فيما بعد على أنها أمور عادية وربما مشروعة وإن كانت تمثل أكبر استغلال للمنصب لتحقيق مكاسب شخصية مباشرة أو غير مباشرة.
بمعنى أننا نحتاج في المنصب إلى الرجل النزيه ربما أكثر من الرجل الكفء لفارق الجدوى الوطنية، فالنزيه يكف أذاه عن المال العام وسلطة المنصب وإن لم يحقق ما كان مطلوبا، أما صاحب الكفاءة فقد لا تنفعنا كفاءته ولكن تضرنا عدم نزاهته وذلك طريقة المثل الشعبي (لا طبت ولا غدا الشر).