سنوات طويلة مضت على السؤال الذي سألته للرئيس السنغالي عبده ضيوف عن سر انزعاجه الشديد من الزيارة الأخيرة للعقيد معمر القذافي لداكار دون أن يجيب.
أخيراً جاءت الإجابة في مذكراته التي نُشرت مؤخراً، وعرضها الدكتور محفوظ دداه.
والذي حدث أن القذافي حين غادر العاصمة السنغالية وفور عودته لطرابلس أبرق للرئيس ضيوف طالباً يد ابنته! لكن الفتاة حينها كان عمرها لم يتجاوز الرابعة عشرة! فلما تأخر الرد أرسل القذافي وفدين دبلوماسيين متتاليين لتنفيذ المهمة.
بعدها بفترة وجيزة اكتشف الرئيس ضيوف عن طريق سيدة أعمال في ليبيا أن القذافي يُخطِّط لخطف الفتاة التي كان والدها قد أرسلها للدراسة في جامعة أمريكية بواشنطن!
كان ضيوف منهمكاً في تنفيذ ما وعد به شعبه من حياة كريمة وديمقراطية حقيقية، ومن ثم فقد كتم غيظه من الطلب الليبي الرسمي، ولم يشأ أن يخبر به أحداً!
ولأن ذلك كذلك، فقد اتصل الرئيس السنغالي بالسلطات الأمريكية طالباً وبسرية اتخاذ التدابير اللازمة لحماية ابنته من طموحات العريس أو العقيد الليبي معمر القذافي.. وقد كان.. تمت الحماية كما يقول ضيوف على أعلى مستوى من السرية والمهنية!
هذا ما ورد في مذكرات الرئيس، أما عن مذكراتي أو ذكرياتي معه، فأنقلها بفرحٍ وغبطة للتاريخ وللمهتمين بأسس الديمقراطية الحقة.
والذي حدث أن الرئيس في المقابلة الأولى التي زرتُ فيها داكار، استقبلني بحفاوة بالغة، لعل أحد أسبابها أنها جاءت قبل الحدثين الأبرز في تاريخه الأول، انعقاد القمة الإسلامية لأول مرة في دولة إفريقية غير عربية، والثاني هو زيارة بابا الفاتيكان لبلد تتجاوز نسبة المسلمين فيه 95 في المائة!
فلما كانت الزيارة أو المقابلة الثانية وسط حفاوة الديوان الرئاسي بي، وفي اليوم التالي مباشرة كنت أتوجه أو أتسلل مع المرافق والسائق الرئاسيين، اللذين أصبحا صديقين صدوقين، إلى مكان بعيد عن القصر.. حيث يسكن زعيم المعارضة والمنافس الشرس للرئيس!
لقد توهمت أواعتقدت أن الأمر جرى بحيطةٍ وحذر وسرية، خاصة وأن المرافق أرسل السائق في مشوار بعيد قبل أن يأتي من يأخذني لمقابلة زعيم المعارضة عبدالله واد!
عدنا إلى الفندق القريب من القصر الرئاسي، وفي صباح اليوم التالي تأهبتُ للقاء الرئيس الذي لم يشأ أن يصفعني بعلمه بمشوار الأمس، وإنما راح يتحدث عن أهمية الالتزام بأسس الديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة وضرورة تغيير الدماء.
وأشهد للتاريخ أن الرئيس ضيوف وهو يتحدث عن منافسه كان ينتقي كلماته، مكرراً أن الأهم منهما معاً -هو ومنافسه- ديمقراطية السنغال.
صمت الرئيس برهة، ثم سألني عما ورد في الحوار الذي أجريته سراً مع منافسه، وقبل أن أُجيب، أو أتلعثم، مضى الرئيس مؤكداً أنه لا يتمسك بالكرسي، ويدعو الله أن يُسلِّم الحكم لمن يُكمل المسيرة!
كنت اقرأ في مذكرات الرئيس السنغالي عندما وقعت عيني على جملة قالها في حواري معه ونشرتها في جريدة المسلمون الدولية التي كانت تصدر عن الشركة السعودية للأبحاث والنشر (الشرق الأوسط): إذا لم يتم انتخابي في الدور الأول من المنافسة سيكون من الصعب تجاوز الشوط الثاني.. والحق أن شيئاً ما حدث بين الشوطين من قبيل الخيانة.. جعلني أتمنى -والله على ما أقول شهيد- أن لا يعيد الشعب انتخابي، وهو ما تم بإرادة الله.. يضيف الرئيس: حصلت على 41% وكانت فرحتي كبيرة وكأنني مقدم على عرس ديمقراطي جديد.. انزاح شعوري بالخوف أو الحزن على الكرسي، وملأني شعور بالزهو والفخر.. وزاد من هذا الشعور سيل التهاني الذي انهمر من جميع قادة العالم وكأنني الفائز.. إنه الفوز بنجاح الديمقراطية.
لقد آمن الرئيس ضيوف بالديمقراطية، وقبلها وبعدها بقضاء الله، الذي أنقذه من الموت في الطائرة التي سقطت، والتي كان سيستقلها عائداً من فرنسا قبل أن يلغي حجزه ويسافر بالباخرة.
إنه الرئيس الذي دخل قصر الرئاسة بفرح وحب وخرج منه مثلما دخل.. الرئيس الذي دعا الله برجاء واستكانة ألا يُكتب له الاستمرار في الرئاسة إذا ما هبت رياح خيانة!
الرئيس الذي شجّعه البعض على دك إقليم كزامنس المتذمر، فقال إن لديه أشياء أخرى يدكها.. طرق وأعمدة، بناء وعمران، تنمية وبنية تحتية ومشروعات استثمارية!
الرئيس الذي تقلَّد منصب رئيس الحكومة في عهد سنجور، فاختار رجلا لحقيبة وزارية فرفض وبالغ في الرفض، وتحوَّل إلى خصم.. فلما فاز برئاسة الجمهورية عاد فكلَّف الرجل الرافض بالأمانة العامة للحكومة.
سلام على عبده ضيوف بمناسبة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.. وسلام عليهما بلا مناسبة.
نقلا عن المدينة