قبل عدة سنوات اجتاحت بعض القطاعات الصحیة المتخصصة موضة تأھیل الأطباء للعمل في الإدارة ، وكان ثمنھا أن يحصل أحدھم على ماجستیر في برنامج إقتصاديات الصحة ، وكان برنامجاً يتبنى وجھة النظر الإقتصادية التجارية البحتة لتقديم العناية الصحیة ، وھو أن المريض بمثابة مستھلك
أو زبون ، وأن العناية الصحیة خدمة تُقدم مقابل مبلغ مادي ، وأن المستشفى شركة ھدفھا تحقیق الأرباح ..
كانوا يحصلون على الماجستیر عبر الإنترنت ، وقد كان أشبه بالبرمجة الذھنیة للطبیب السعودي للقیام بمھمة تحويل مفاھیم العناية الطبیة الاجتماعية والأخلاقیة إلي مفاھیم إقتصادية تخدم أغراض الأرباح العالیة لرؤوس الأموال والشركات التجارية ، وبالفعل نجح بعضھم في التأھل سريعاً إلي مناصب إدارية ، ولو كان ذلك على حساب خبراتھم الجراحیة والطبیة .
كانت المھمة أن يتحول المستشفى إلى شركة أو مؤسسة ، وھو ما يخالف أبسط أبجديات التعلیم الطبي وأخلاقیات الطب والدين وغیرھا من المرجعیات ،التي لا يمكن أن تتعامل مع المريض على أنه " زبون " يشتري خدمات مقابل مبلغ مادي ، ومن أراد أن يتحقق في الأ مر فعلیه أن يقرأ عن تاريخ
العناية الصحیة في أوروبا ، وتاريخھا التجاري المشوه في الولايات المتحدة الأمريكیة..
المريض لیس زبوناً يتجول في أسواق العناية الصحیة من أجل منتج صحي أو مقابل مبلغ مادي ، لأن المنتج الذي قد يشتريه مقابل مبالغ مادية ھو الموت أو الإعاقة ..، و المريض لا يمكن أن يفھم ماھیة المنتج الصحي ، فالطبیب قد يبدأه على أدوية لا يحتاجھا ، أو يجري له عملیة جراحیة غیر ضرورية من أجل أن تكسب الشركة ..
المدھش أن ھؤلاء يستدعون القضاء والقدر والأخلاق الدينیة إذا كان المنتج الصحي الذي أشتراه الزبون (المريض سابقاً ) ھو الموت أو الإعاقة أو المرض ،وھو ما يعني أننا أمام خداع غیر أخلا قي وغیر شرعي ، إذ كیف تبیع الشركة الصحیة منتجاً لا تستطیع تقديم ضمانات مستقبلیه علیه ، ولا يستطیع المريض إعادته أو إصلاحه إذا تلف أو تضررت أحد أعضاءه الطبیه بعد شراءه للمنتج..
المريض لیس دوماً على حق ، والذي قد يطالب بأشیاء محددة من العناية الصحیة ، ويتم إنكارھا لحجة أنه غیر متخصص ، بینما في أسواق العرض والطلب فالزبون دوماً على حق ، والمريض لم يختار أن
يشتري الخدمة ، ولكنه مضطر إلیھا ، وھذه أساسیات ضد اقتصاديات الصحة في برنامج الماجستیر الأمريكي ..
المريض لا يمكن أن تكون درجة تأمینه أو رصیده المالي ھي المقیاس لتحديد نوعیة صمام القلب الذي يحتاج زراعته ، أو حقه الإنساني في تلقي العلاج العاجل لمرض السرطان ، وھو ما يعني أننا سنواجه إشكالیة أخلاقیة كبرى..
اقتصاديات الصحة المنتشرة في السوق التجارية تبشر أطباءھا أنھم سیحصلون على نسب من تكلفة الفحوصات الطبیة كالأشعة وفحوصات الدم وغیرھا ، وذلك لتشجیعھم لزيادة عدد الفحوصات ، و بالتالي ارتفاع الدخل المادي للشركة الصحیة ، ..أي عقل أو أخلاق يرضى بھذا الدجل..
لا نحتاج إلي أدلة أو براھین ، راجعوا فقط أرباح بعض المستشفیات الخاصة و المطروحة في سوق المال ، وتأكدوا من ارتفاع أرباحھم برغم من تدني مستوى تقديمھا للعناية الصحیة ، وتحققوا من أعداد المرضى الذين يتوسل أقاربھم من أجل نقلھم إلي المستشفیات الحكومیة بسبب دونیة العناية
الصحیة المقدمة للمرضى في القطاع الخاص ..
يا معالي وزير الصحة العناية الصحیة لا يمكن أن تكون سلعة تجارية ، ولا يمكن أن تتحول المستشفیات إلي شركات حكومیة أو مساھمه في سوق الأسھم ، وھو ما يحدث حالیاً ، ونحن على وجه التحديد في منطقة مفصلیة ، وربما سیكتب التاريخ يوماً أن المأساة بدأت في ھذا الیوم ..سینتج عن ھذه الخطوة إنھیار لمفاھیم العناية الصحیة الإنسانیة ، وستنھار برامج التعلیم الطبي والأبحاث العلمیة ، ومن باب العلم لمعالیه ، فإن المستشفیات الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكیة لیس شركات يملكھا التجار ، فھي غیر هادفة للربح المادي ..
أطالب بعدم الاعتراف بالدرجة العلمیة لبرنامج ماجستیر اقتصاديات الصحیة ذات الطابع التجاري عبر الإنترنت ، لأنه يسوق لأفكار خاطئة ، و كان سبباً لترك كثیر من الأطباء الناجحین غرف العملیات وعیاداتھم ، ثم إلإلتحاق بركب تسويق منتجات العناية الصحیة للتجار على طريقة وكالات السیارات
والأجھزة المنزلیة وخدمات الفندقة..،ختاماً يا معالي الوزير ..ھل نتريث قلیلاً… أو يكون تطبیقھا تحت بند التجربة في مستشفیات محددة
كاتب وطبيب سعودي