زرت أكثر من ثمانين دولـة وابتكرت بنفسي هذا المصطلح "سلم الانضباط الاجتماعي"..

لاحظت وجود شعوب منضبطة لا تحتاج قوانين وإرشادات للتصرف بشكل راق ومتحضر، وشعوب غير منضبطة "ليست متخلفة بالضرورة" ولكنها لا تتصرف بشكل راق ومتحضر رغم كثرة التعليمات والإرشادات - ناهيك عن كثرة الخطب والنصائح والنصوص الشرعية..

أبرز مفارقة لاحظتها العام 2011 حين زرت الهند، ثم بعدها اليابان مباشرة.. لا يشك أحد في ذكاء الهنود وعراقة الحضارة الهندية، ولكنني لم أرَ في حياتي فوضى كالتي رأيتها في شوارع كلكتا ونيودلهي وأجرا.. لا يوجد في العالم كله من ينافس الشارع الهندي في الازدحام والتلوث وكثرة الأبواق واختلاط البشر بالسيارات والبقر والباعة الجائلين.

بعدها مباشرة ذهبت إلى اليابان حيث نسبة الانضباط "مرتفعة جداً" لدرجة تشعر أنك تعيش بين روبوتات آلية. الانضباط في اليابان فعل عفوي وتصرف تلقائي تلمسه في الشوارع والمطاعم والقطارات وكل مكان تذهب إليه.. شوارع المدن لا تخلو فقط من عمال النظافة وحاويات الزبالة، بل حتى من اللوحات الإرشادية من نوعية "النظافة من الإيمان".. اللوحة الإرشادية الوحيدة التي رأيتها كانت في منطقة أوديبا في طوكيو.. كنت أقف مع ابن السفير "قتيبة تركستاني" في ساحة كبيرة لدرجة يمكن لبرشلونة اللعب فيها.. كانت خالية تقريباً من البشر باستثناء رجال يقفون بعيداً بشكل دائري.. لفت تجمعهم انتباهي فسألت قتيبة: ماذا يفعلون؟ قال: يدخنون.. قلت: ولكننا في ساحة كبيرة ومفتوحة فلماذا يتجمعون هناك كالذباب حول قطعة سكر.. ابتسم وقال: تعال لأريك.. ذهبنا ودخلنا بينهم، ثم أشـار بإصبعه إلى صورة سيجارة مرسومة على الأرض وقال: لأنه المكان الوحيد المخصص للتدخين.. تعجبت وقلت؛ ولكنه مكان واسع ومفتوح وكان بإمكانهم التدخين بأي مكان.. قال: هكذا هم اليابانيون.. ضحكت وقلت: أعرف أشخاصاً لا يترددون في التدخين في الطائرة والمصعد.. ولم أنـهِ كلامي حتى وصل رجلان انتظرا خروجنا من الدائرة ليقفوا قرب السيجارة المرسومة على الأرض!!

.. نعـود لموضوعنا الأساسي شعوب منضبطة.. وشعوب غير منضبطة..

لا أعتقد أننا "في المملكة" نصنف كشعب منضبط، ولكنني أعترف أننا تقدمنا بسرعة خلال السنوات الأخيرة.. أبرز مظهرين للانضباط "يمكن ملاحظتهما بسهولة في أي مجتمع" هما طريقة القيادة، وتمكين المرأة.. حتى وقت قريب كنا نضرب بقوانين المرور عرض الشارع "رغم أننا نصبح منضبطين جداً في دبي ولندن وواشنطن" أما المرأة فكانت معزولة ومحرومة وعاجزة عن متابعة مصالحها بنفسها.. حتى وقت قريب كنا لا نعترف بالطوابير ونتزاحم بشكل مخجل في المطارات والبنوك والدوائر الحكومية.. هل تذكرون رفع الأصوات وكثرة الزعيق وتعاملات الموظفين مع المراجعين؟ هل تذكرون حالات الفوضى والتسيب في المكاتب والمحاكم ومؤسسات الدولة؟ هل تذكرون وضع المرأة بين كل هؤلاء - وعدم السماح لها بالدخول أصلاً؟!

خـفّ كل ذلك اليوم وأصبحنا أكثر انضباطاً ورقياً وهـدوءاً.. التغييرات التي أحدثها ولي العهد في البـلد انعكست حتى على تصرفات الناس وانضباط المجتمع وأجهزة الدولة.. انخفضت نسبة التحرش الجنسي، والتسيب المروري، والفساد الإداري، وأصبحنا ندفع ضريبة مثل كل الشعوب المسؤولة..

وقد يقول قائل: ولكنك بهذه الطريقة تعترف أن تقدمنا "في سلم الانضباط" يعود لحزم الدولة وسـن قوانين جديدة، وليس لأن الناس أصبحوا أكثر وعـياً وانضباطاً؟!

لا بأس بـذلك.. فالانضباط لا يتشكل من خلال النصائح والإرشادات "بدليل عدم قدرة خطب الجمعة على تغييرنا منذ 14 قرناً" بل من خلال الحـزم وفرض القوانين "بدليل قول عثمان بن عفان: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".. يـبـدأ كأنظمة وتشريعات، ويتحول بمرور الوقت إلى عادات وتصرفات اجتماعية.. يتناقلها الناس جيلاً بعد جيل حتى تتحول إلى تصرف عفوي يُـنسيهم أصلها القديم.. الانضباط الذي يتمتع به الشعب الياباني تبلور نتيجة تربية عسكرية صارمة فرضها أمراء الشوغون طوال 900 عام.. وفي المقابل كانت ثقافتنا العربية وصراعاتنا القبلية تمجد البطولات الفردية وانتزاع الحقوق بالقوة "حيث لنا الصدارة دون العالمين أو القبر" فانعكس ذلك على تصرفاتنا الأنانية، وتقديم مصلحتنا الفردية، وقـيادتنا في الشوارع بطريقة "يا غالب يا مغلوب"..

نقلا عن الرياض