مقالة الأسبوع الماضي (الأحزاب خلف أسوار الجامعات) كانت تأسيسا لمقالة اليوم، فقد أطلقت وزارة التعليم مشكورة مسودة نظام جديد للجامعات لأخذ تعليقات الأكاديميين والخبراء حوله، وما يزال يعبر الدوائر الخاصة لتطبيقه على جامعاتنا، لكن لا نعلم ماذا بقي في مسودته وماذا ذهب؟ فلم تحو المسودة لوائح تفسيرية للائحته الأساسية، ولا نعلم كيف سيكون تكييفه وصياغة لوائحه التنفيذية لكل جامعة على حدة، بما يضمن استقلالية كل جامعة وتميزها عن مثيلاتها، ولكن الحال القائمة في البيئات الأكاديمية التي شرحت جزءا منها في المقالة السابقة تخلق حالة من التخوف والقلق العميق في نفوس كثير من أعضاء هيئة التدريس في جامعاتنا.
ليس خافيا أن بعض الأساتذة الكبار حين علموا بالنظام، خاصة البند المتعلق بتحويل الوظائف الأكاديمية إلى نظام التعاقد، تلفتوا يمنة ويسرة، نظروا إلى رصيد خدمتهم في العمل الأكاديمي، وما تبقى لهم، وأجالوا النظر في المشهد الأكاديمي المشوش بالصراعات والحزبيات باختلاف أنواعها، وتذكروا معاناة المتعاقدين وثقافة المسؤول تجاههم في النظام القائم، فوجدوا في (التقاعد) راحة من عناء استشرفوا وقوعه بفعل النظام الجديد، وإن وجدوا فرصة بعد التقاعد في النظام الجديد للتعاقد فبها ونعمت، وإن لم يجدوا فقد خرجوا ـ حسب رأيهم ـ بأقل الخسائر!
متفائلون بتطبيق النظام الجديد، لكنه سيكون صعبا في بيئات ليست مهيأة، تسير الأمور فيها على مزاج ثنائية (الرضا والسخط) وإن لم تتنبه وزارة التعليم ـ وهي قديرة ـ إلى هذا الأمر فسيقع حيف كبير على (سبيل تصفية الحسابات) من الذوات المسكونة بالانتقام والتخلص ممن يعتبرونهم خصوما، أو تصورهم خيالاتهم منافسين مهددين لما يحظون به من امتيازات، وهنا لا بد أن تشرع الوزارة في تنقية البيئة الأكاديمية من شوائب الصراعات قبل الشروع في تطبيق النظام، وأن تحوي اللوائح الأساسية والتفسيرية والتنفيذية للنظام، قنوات شفافة جدا تضمن عدم وصول الشوائب النفسية والصراعات الحزبية والفكرية إلى عقود الأعضاء، خاصة فيما يتعلق بمسوغات التعاقد مع عضو هيئة التدريس وتجديد عقده من عدمه، وألا يتجاوز التقييم (الكفاءة) والكفاءة العلمية فقط.
التطبيق الجزئي للنظام على جامعات معينة، ومراقبته مراقبة دقيقة، وتأجيل ما يتعلق بنقل وظائف أعضاء هيئة التدريس إلى نظام العقود بعد التجربة الجزئية أجدى وأنفع، فالصراعات قد تكون مقبولة (على مضض) ويستطيع الناس التعايش معها، رغم ظلالها الكثيفة على العطاء والمنتج والتأثير، لكن وصولها إلى ما يهدد الوظيفة، والحياة الكريمة لأسرة عضو هيئة التدريس كارثة وطنية يجب ألا يغفل عنها المسؤولون، وليست عنا ببعيد قضية المادة (77) من نظام العمل التي استغلها بعض أصحاب الأعمال وفصلوا بموجبها (تعسفيا) عددا كبيرا من العمال السعوديين حسبما ذكرت التقارير الإعلامية.
مع تفاؤلي وسعادتي بالنظام الجديد للجامعات، لكن إن لم يمس التغيير جامعاتنا من الداخل، فستظل غارقة في البيروقراطية ومركزية القرار ورؤية الرجل الواحد، ولا يخفى أن جامعاتنا في أمس الحاجة إلى إعادة ترتيبها من الداخل، وتحديث أنظمتها الداخلية، وإخراجها من مساحة الركود والفردانية إلى فضاءات تتفاعل فيها كل مكوناتها، فهي البيئة المناسبة لتطبيق نظام الانتخاب الذي لم أحس له ركزا في النظام الجديد، فالتعيين لا يليق بالمجالس الجامعية، من مجلس القسم حتى المجلس العلمي ومجلس الجامعة، وهذا الأخير يجب أن يكون مهيمنا على القرارات ورسم سياسات الجامعة، وأن تكون الهيئة الإدارية (إدارة الجامعة) تنفيذية، لا تهيمن على قراره ولا تتجاوزه.
تطبيق نظام الانتخابات الجامعية إذا كُيّفت قنواته بما يضمن نقاءها، وانتفاء سلبيات (المناطقية والقبلية والحزبية والتخصصات) وكانت وجهتها الحقيقية إلى الكفاءة والمنجزات الفعلية؛ سيكون حلا ناجعا لجامعاتنا، ونقلة اجتماعية كبرى تؤسس للعمل الانتخابي حتى في المجالات الثقافية كالأندية الأدبية والمجالس البلدية والمؤسسات الخاصة وغيرها مما يستجد، ذلك أن الجامعات بكوادرها المؤهلة تأهيلا عاليا هي أولى الجهات بتطبيق هذا النظام، لضمان صناعة بيئات علمية حقيقية، تتنافس مكوناتها بالإنجاز، وتقود المجتمع إلى مستقبل تأمله رؤية 2030 المباركة، فتكون جامعاتنا مثالا يحتذى في الكفاءة الإدارية على مستوى الوطن. والله من وراء القصد.
نقلا عن صحيفة مكة