سوف تظل المجتمعات في جميع أنحاء العالم وعبر التاريخ تعتمد وبقوة على الأديان والثقافات والتاريخ السياسي والاجتماعي كمصدر للقيم العميقة التي يمكن الوثوثق بنتائجها في إدارة المجتمعات وترسيخ الثقافات دون الدخول في مخاطر الاختيار المحير، لذلك تتخذ الدول من الأديان مصدراً مهماً وقريباً لبناء القيم المناسبة في المجتمعات، وعبر التاريخ مرت المجتمعات بحوارات فكرية وثقافية مهمة لتحديد الأهداف النهائية لبناء مجتمعات مستقرة لا تعصف بها التحولات الثقافية المفاجئة.
العديد من الأفراد في المجتمعات العالمية وخاصة فئة الشباب، ومن بينهم مجتمعنا، يواجهون أزمة في تحديد الهدف الواضح لهم والمناسب لمستقبلهم، لذلك ينشأ لديهم تحديات الاختيار للقيم التي يرغبون فيها، فالأسئلة التي تنشأ لديهم تعمق البحث عن القيم الصحيحة التي سوف تذهب بهم إلى اختيار الأهداف الصحيحة لبناء مستقبلهم، فئات الشباب في المجتمعات اليوم لديهم خيارات متعددة أن يصبحوا في الاتجاه الذي يختارونه ولكن ذلك يتطلب قيادتهم نحو ذلك الاتجاه عبر بناء ثقافة قيمية في فضاء مجتمعاتهم.
تجربة التحول من حالة إلى أخرى في كثير من المجتمعات الدولية تواجه أزمات مباشرة، وخاصة في دول العالم الثالث التي تمارس فكرة التقليد والتبعية الثقافية أكثر من فكرة الابتكار أثناء عمليات التحول، لأن أخطر ما يواجه المجتمعات التقليدية هو التحول الذي يمس القيم ويناقش الأصول الثقافية للمجتمع ويسأل حولها فيؤدي ذلك إلى مناقشة التقاليد والسلطة الثقافية تحت مفهوم التغير وهذه سلسلة من الأبواب التي يستحيل إغلاقها إذا ما تم افتتاحها.
التحولات في المجتمعات سنن كونية تحدث تلقائياً ولا يمكن الفرار منها مهما كانت الاحتياطات، وعبر التاريخ سجل العالم تلك التحولات لمجتمعاته، وكان الفارق الوحيد بينها هي قدرة بعض تلك المجتمعات على إحداث تحول إيجابي، التحولات المجتمعية ومن أجل كسب نتائج إيجابية فإنها ليست عملية تغيير مفاهيم مجردة، فهي تخضع لمراجعة القيم وبناء قيم جديدة أكثر عمقاً من أجل إدارة هذا التحول القادم، فعلى سبيل المثال حدثت في المجتمعات الغربية تحديداً تحولات اجتماعية وثقافية مماثلة صاحبت التحولات الديمقراطية في تلك البلدان.
السؤال المهم الآن يكمن في معرفة كيفية حدوث التحول، لأن التحول له خيارات أساسية بين المفاهيم والقيم، ففي التحول الموجه نحو المفاهيم، فإن ذلك يشكل تحدياً للمجتمع، فالمفاهيم لا تتمتع بالعمق في درجة التأثير والقبول الاجتماعي كما تفعل القيم، على سبيل المثال في الكثير من المجتمعات يتعارف المجتمع والأفراد ومن خلال رسالة المؤسسة السياسية على أن المرجعية الثقافية والقيمية لدى ذلك المجتمع هي مرجعية عقدية وتاريخية وثقافية وقيم وعادات وتقاليد ذلك المجتمع، هذه تعني أن أي تحول له ميزان وضابط يتمتع بالسلطة السياسية والاجتماعية والثقافية.
السؤال الآخر يقول: ما الفرق بين القيم والمفاهيم في عمليات التحول؟ ومع أن الإجابة كبيرة إلا أن أهم الإجابات تكمن خلف درجة الثبات والرسوخ التي تتمتع بها القيم في مقابل المفاهيم التي تتعرض لتفسيرات متعددة، بمعنى دقيق الحوار حول المفاهيم يؤسس للتعصب حول الآراء والأفكار، بينما الحوار حول القيم يتمتع بمرجعية إما عقدية أو تاريخية أو ثقافية مما يسهل عمليات التحاور حوله، وإذا كنا نفهم أن التاريخ مليء بالمعارك عديمة الجدوى في الأبعاد الثقافية، فإن ذلك بسبب أن المفاهيم كانت هي المسيطرة على المشهد.
النتيجة الفكرية التي يمكن الحصول عليها أن المجتمعات التي ترغب في التغيير والتحول لا يجب عليها أن تنقل إلى مجتمعاتها ثقافات أو نتائج ثقافية وصلت إليها مجتمعات أخرى بعد معارك ثقافية طاحنة استمرت لعقود، التحولات والتغيرات التي تتبنى المفاهيم تحدث هزات مجتمعية وحوارات متعصبة تترك أثرها على المجتمع، خاصة إذا كانت قنوات الحوار ومنصاته في المجتمع غائبة في نوم عميق، أما التحولات التي تعتمد على تحليل القيم وفهم أبعادها فإنها تنتج ثقافتها الخاصة في التغيير والتحول دون الدخول في مواجهة المجتمعات ببعضها.
التحدي الكبير أمام المجتمعات الناشئة التي تستجيب لعمليات التحول كسنة كونية أن تدرك كيف يمكنها المرور عبر هذا التحول دون أن تفقد الكثير من وزنها القيمي، ولكي تكون الصورة واضحة فإنه لا بد من الفهم بأن قيم المجتمع الطبيعية يمكنها أن تُدهس في مسيرة التحول وتتغير المفاهيم وهنا الخطورة المستقبلية، لأن نشر فلسفة التغيير عبر المفاهيم فقط قد يوهم المجتمعات أنها أصبحت سيدة نفسها في لحظات التحول دون انتباه لضوابط القيم المشتركة في المجتمع التي ينتظر أن تكون ضابط الإيقاع الوحيد لإحداث التغيير والتحول المضمون.
نقلا عن الرياض