تمنيت بعد متابعتي مناسبة التوقيع على الفرص الاستثمارية والصناعية المستقبلية في المملكة، الذي شرفه ولي العهد السعودي قبل أيام، أن تكون المناطق الحاوية لهذه المشاريع أكثر تنوعاً مما اعتدنا عليه والمتمثل غالباً في الرياض وجده والدمام.
على سبيل المثال وليس الحصر ما الذي كان يمنع من إقامة مصنع عجلات القطارات في المجمعة أو الزلفي؟ ما الذي يمنع من إقامة مصنع الحافلات في حائل أو وادي الدواسر أو شقراء؟ قد نتفهم الحاجة لوجود مصانع لمشتقات النفط في الشرقية أو ينبع لقربها من المادة الخام، لكن كمصنع للأدوية أو ما يشابهه لا يوجد أي موانع من تشييدها في مدن أخرى طمعاً في تحقيق مبدأ توزيع التنمية جغرافياً.
هذا ما كنت أظنه قبل أن أتعمق في الفكرة كثيراً. نعم، الجميع يقترح توزيع التنمية على أكبر عدد من المناطق داخل هذه البلاد التي تزيد عن حجم قارة غير أنه توجد عقبات غير ظاهرة للعيان، المدن المتوسطة التي أشرت لها لا تغري المستثمر حالياً لافتقادها الكثير من العناصر اللوجستية المطلوبة كعدد الرحلات الجوية وأماكن الإقامة ووسائل النقل والتغذية والمواقع المناسبة والخدمات الأخرى المساندة. هنا نتساءل عن الأسباب وراء هذا الإخفاق؟
من أهم الدعم الذي يفترض أن تقدمه المدن لحث المستثمرين وإغرائهم تقديم المواقع المهمة اللازمة للمشاريع، غير أن هذا العنصر في الحقيقة لا يوجد في معظم مدن المملكة ومنها العاصمة، منح الأراضي بالشكل الذي كان يتم سابقاً تسبب في شح عدد الأمتار المملوكة للدولة، مع هذه المنح وبملايين الأمتار اكتفت الحكومة بتحديد مواقع صغيرة جداً داخل كل مخطط تطويري مخصصة للتعليم والصحة والحدائق العامة والمساجد، لكنها لا تفي بالمتطلبات الأخرى المتصلة بالتنمية والمتوافقة مع رؤية السعودية. من هنا نجد أن الدولة لجأت لما يعرف بنزع الملكيات مقابل دفع مبالغ باهظة لملاك الأراضي عند الحاجة لموقع ما. تنفيذ مترو الرياض خير شاهد على ذلك، إذ إن تكاليف نزع الملكية أسهم في رفع التكاليف الإجمالية للمشروع.
القضية الأخرى وهي لا تقل أهمية، أن هذه المدن وفي غالبها الأعم لم تضع أساساً ما يعرف بـ«الماستر بلان» للمدينة وضواحيها تحدد من خلالها توجه المنطقة وأهدافها ومتطلباتها لجذب الاستثمارات. إمارات المناطق وهي المسؤولة عن ذلك وبسبب المركزية المبالغ بها، ما زالت تمارس روتين استقبال المراجعين. المجالس البلدية شبه غائبة عن مجرد التفكير بما يعرف بـ«أهداف الغد» والتخطيط لها ويكتفي الكثير منهم بالوجاهة وراء هذا المنصب الهام.
ما يميز مدينة كالعاصمة الرياض على رغم كل ما تعرضت له من تشويه وعشوائية في كود البناء وتخطيط الأحياء في العقود الماضية وانفلات أنظمة السير إلا أنها توفر الكثير من الخدمات الأخرى التي أشرت إلى بعضها.
لتغطية هذه الثغرات الهائلة وللتخطيط للتنمية المتسعة جغرافياً لا بد من إعادة النظر في آلية توفير المواقع وفي عمل ومهام إمارات المناطق. وقد جاء ذلك ضمن برامج التحول الوطني والرؤية قبل أكثر من عامين من دون وجود المتابعة المطلوبة وتطبيق مبادئ الثواب والعقاب.
إصلاح هذا الخلل إضافة الى استفادة المدن المتوسطة، سيخفف من الضغط على المدن الرئيسة الثلاث في السعودية وسيحد من نموها الجغرافي الذي لا يتوقف ويشكل الكثير من الأعباء اللوجستية والأمنية، مع التركيز على هذه البديهيات قد نجد فيما بعد نوعاً جديداً من التنافسية في الداخل. أي مدينة تفوقت على المدن الأخرى واستقطبت أكبر عدد من الاستثمارات. أي مدينة حظيت بأكبر عدد من الزوار لحضور الفعاليات التي تقام بها. ما المدينة السعودية الأكثر نظافة وأقل حوادث وأفضل رعاية صحية. نستطيع التطلع إلى ذلك وأكثر ما عدا قبول الحال كما هي عليه اليوم مع توفر كل الإمكانات اللازمة للتغيير.
نقلا عن ا لحياة السعودية اللندنية