أعرف معلما يحمل الدكتوراه في الكيمياء، له 12 بحثا علميا منشورة في مجلات عالمية حسبما أخبرني، ولا عيب فيه غير أن أيامه بلغته السابعة والأربعين من العمر، فكانت حاجزا منيعا دون قبوله في بعض الجامعات، مع أنها تغص بالمتعاقدين في تخصصه، وأمنيته المستحيلة أن يجد من يساعده في التقليل من سنوات عمره الماضية، فقد أصبح تاريخ ميلاده حائلا بينه وبين أحلامه، ومصدر قلقه وأرقه واربداد أيامه!
المعلمون حملة الدكتوراه من الطاقات الوطنية المهدرة التي لا يقدرها التعليم ولا تستفيد منها الجامعات، بحجج غالبا ما تكون واهية خاصة حين ترتبط بالعمر، مع أن بعض الجامعات تتعاقد مع معلمين ومعلمات من الخارج للتو حصلوا على الدكتوراه، وبعض الجامعات تتجاوز عن الشروط المفروضة على المواطنين، كتبت عن إحداها سابقا، فشرط قبول المواطن ألا يقل معدل البكالوريوس عن (جيد جدا) وإعلان تلك الجامعة الدائر بين المتعاقدين من خارج الوطن يتنزّل إلى (جيد)، وهذا أمر محير جدا!
ما أعلمه أن شرط (جيد جدا) في مرحلة البكالوريوس أساسي في القبول لدراسة الماجستير، وما دام الإنسان قد استطاع الحصول على قبول دراسة الماجستير والدكتوراه من جامعة معتمدة، فلماذا العودة مرة أخرى إلى البكالوريوس بالنسبة لحامل الدكتوراه؟ ولماذا لا تصمم الجامعة اختبارات (تطلّع عين المتقدم) وتظهر قدراته بدل التعنت عند هذا الشرط، والسؤال المقلق جدا: لماذا تتنازل الجامعات عن هذا الشرط في حال التعاقد الخارجي، وتأبى ذلك مع المواطنين؟
بعد دمج وزارتي التعليم العالي والتربية والتعليم، أصبحت وزارة واحدة وكل الكادر التعليمي والأكاديمي على ملاكها، ما ينفي حجة (التسرب) القديمة، فما المانع أن تغطي الوزارة شواغر الجامعات بالمعلمين المؤهلين (الأكفاء)؟ فكل الأمر تحويل وظيفة داخل الوزارة دون تبعات مالية، والشاغر الذي سيحدثه نقل المعلم (الدكتور) سيشغله خريج بكالوريوس عاطل وفق الشروط التي وضعتها الوزارة، وسيكون حلا بديلا أو مخففا من التعاقد الخارجي مع كوادر ربما لم تحصل على تأهيل المواطن.
من جهة أخرى تلجأ بعض الجامعات اليوم لسد عجزها إلى ما يسمى (التعاون)، وهو إسناد بعض الساعات الأكاديمية إلى مواطن يحمل الماجستير أو الدكتوراه (موظف أو متفرغ)، يحضر في أوقات معلومة يحاضر فيها وينصرف، ولا يتماس مع الوسط الأكاديمي مطلقا، وكل حقوقه الأكاديمية مسلوبة، فما المانع أن تتعاقد الجامعة معه أو تطلب تحويل وظيفته إليها؟ فما دامت قد قبلت أن يحاضر في قاعاتها، فهي تؤمن بكفاءته لأنها عقدت له اختبارات خاصة، فوجدته جديرا بالقبول، فلماذا تتعاقد مع غيره؟
المشكل المقلق حين يوافق مواطن على العمل متعاونا في بعض الجامعات أو الكليات، سواء أكان موظفا أم عاطلا، فهو يوافق بأجر زهيد ربما لا يتجاوز 70 ـ 100 ريال للمحاضرة، وكل طموحه أن يثبت ذاته ويقنع المسؤول بكفاءته، لكنه يفاجأ بالاستغناء عن تعاونه بعد فترة، لأن الجامعة استطاعت التعاقد مع أكاديمي من الخارج، فلم يكن المتعاون سوى أداة لسد ثغرة الجدول حتى وصول المتعاقد.
ومن ناحية أخرى لو نظرنا إلى (المواد العامة) في الجامعات، سنجد بعضها يسند إلى بروفيسورات يتقاسمونها مع معيد ومحاضر، فما فائدة التعاقد مع بروفيسور (قامة علمية) تستهلك وقته وجهده في تدريس مادة عامة، في حين أن الجامعات تستطيع تعيين مواطنين في بداية مشوارهم الأكاديمي لتدريس هذه المواد، وتستفيد من القامات العلمية الكبرى في تخصصاتهم، وكذلك في مشروعات الجامعة البحثية والثقافية والاجتماعية.
هذه المفارقات تستحق النظر العميق من وزارة التعليم، ومن جامعاتنا الموقرة، فالإفادة من الكوادر الوطنية المؤهلة واجب وطني، يجب أن يكون نصب عيني المسؤول، ولا سيما حين نعلم أن وزارة التعليم لا تمنح حملة الدكتوراه أي امتيازات مالية أو إدارية، وتظل شهاداتهم مصدر إحباط في أعماقهم، وفوق مضض انعدام الامتيازات، نجد حتى مفاضلات التعليم على وظائف الإشراف والقيادة المدرسية وغيرها ترتكز ـ حسبما أذكر ـ على شهادة البكالوريوس، فأي حالة إحباط يعيشها دكاترة التعليم أقسى من هذه؟!
نقلا عن مكة