أذكر أن أحد أساتذتي في كلية العمارة في الثمانينات الميلادية كان ينتقد الوقف ويقول إنه نظام تنموي مشتت يصعب السيطرة عليه وغالباً ما يتحول مع طول الوقت إلى حالة من الخراب والعبء على المجتمع والتنمية بشكل عام، وكان يتحدث عن حالة الوقف في الحضارة الإسلامية على وجه الخصوص. على أن إشكالية الوعي المعاصر بأهمية الوقف في البناء الاقتصادي والاجتماعي أدت إلى تبني الدولة تأسيس صناديق الاستثمار الوقفية كجزء من رؤية 2030 ووضعت ضوابط لتأسيس هذه الصناديق والتي سيكون لها أثر عميق على تطور دور الأوقاف في المستقبل وتحررها من شكلها التقليدي الذي عطل كثيراً من الأوقاف على مر السنين. فرغم أن قيمة الأوقاف في المملكة تصل إلى 350 مليار ريال إلا أن دخلها ضئيل جداً مقارنة بقيمة الأصول. وقبل أن أنتقل إلى صلب موضوع الصناديق الوقفية سوف أتحدث على عجالة عن مشكلات الأوقاف التي واجهتها شخصياً عندما كنت أعمل مشرفاً عاماً على مركز التراث العمراني الوطني بالهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، فكما يعلم معظمكم أن كثيراً من المباني التراثية هي أوقاف ومع تقادم الوقت تفتتت الملكية لهذه الأوقاف وأهملها أصحابها وتحولت إلى خرائب وتعطل دورها ولم يعد لها أي دخل، وهذا ناتج في الأصل من وجود إشكالية في (1) شكل الوقف، وأقصد هنا الآلية التي يتم بها تحديد الوقف (2) إدارة الوقف، والمقصود هنا هو الأسلوب التقليدي المتبع في تحديد مجلس نظارة للوقف وما يترتب عليه من ضياع للمسؤولية مع الوقت.
هناك فوائد جمة لصناديق الوقف، لكن يمكن أن أتحدث هنا عن مسألتين مهمتين أولهما أن صناديق الاستثمار الوقفية ستكسر حالة الفردية في العمل الوقفي فقد تعودنا تاريخياً أن الأوقاف عادة تسمى بأسماء موقفيها أما في حالة وجود صناديق وقفية فإن هذا سيجعل الكثير من أفراد المجتمع يساهمون في العمل الوقفي دون أن يكون هناك حاجة إلى تأسيس وقف فردي وهذا سيوسع من الأوقاف وسيزيد من تأثيرها والأهم من ذلك سيضمن استمرارها رغم أن مشكلة "نظارة الوقف" لم تحل حتى الآن، وهذا قد يعطل هذه الصناديق في المستقبل إلا إذا تم تحويل مجلس النظارة إلى مجلس إدارة يتم انتخابه من المساهمين في الصندوق ومن ذرياتهم في المستقبل. ما يميز صناديق الوقف هو مبدأ التنمية من خلال المشاركة المجتمعية وهذا المبدأ غائب حتى اليوم.
المسألة الثانية هي "الشركات الوقفية" والتي حاول بها البعض معالجة مشكلة الوقف الفردي الذي ثبت تاريخياً وجود إشكالات كبيرة في استمرارية إدارته، فنحن لسنا مثل الغرب في تعامله مع الوقف حيث يتحول الوقف إلى مؤسسة استثمارية أشبه بالصندوق مع بقاء اسم الموقف الأساسي وإمكانية دخول مساهمين جدد للوقف مع الوقت كون الوقف في الأصل هو لمؤسسة تعليمية أو ثقافية مثل مؤسسة "سمثسونيان" الثقافية في واشنطن وغيرها من مؤسسات، فرغم أن الوقف الأصلي مستمر ويحمل نفس اسم الواقف إلا أن هناك مساهمين كثر في هذا الوقف تذكر أسماؤهم (حسب رغبة الموقف) في لائحة الشرف. أعود للشركات الوقفية التي هي شركات تجارية بالكامل يتم إيقاف أسهمها ويستفاد من دخلها السنوي للصرف على مصارف الوقف. هذه الشركات لم تقر حتى الآن لكنها في الطريق إلى أن تقر ويصدر لها نظام وهي الخيار الأمثل في الوقت الراهن لكثير من الشركات الأسرية التي ترغب في تأسيس أوقاف باسم الأسرة تكون مساهمة من المؤسسين وذرياتهم وفي نفس الوقت تدار كشركة مستقلة يتم زيادة أسهمها من قبل أبناء الأسرة مع الوقت واستثمار دخلها في أعمال الوقف وتوسيع استثماراته.
بشكل عام يحتاج الاستثمار الوقفي إلى أفكار جديدة خارج الصندوق مع مراجعة عميقة للتجربة التاريخية الممتدة لأربعة عشر قرناً، وهي تجربة فريدة ومهمة فيها كثير من الإيجابيات وبعض السلبيات، فكما أن الوقف مهم لخدمة أبناء المجتمع وفتح آفاق للمحتاجين منهم كذلك هو مهم في التنمية بشكل عام. وأرى أن التحول من الوقف التقليدي إلى الصناديق والشركات الوقفية سيوسع من نشاطات الوقف الاستثمارية وسيجعل منه أحد العناصر الفعالة المهمة التي سيكون لها إسهام واضح في التنمية الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام.
نقلا عن الجزيرة