الإنسان بطبعه لا يستغني عن صديقٍ يبثُّ إليه مُكنونات صدره، ويستنير بآرائه إذا حار في متاهات الآراء، واشتبه عليه الصواب، ويَعُدُّهُ للنوائب والأزمات، ويستعين به إذا ارتبك في المضايق، وأحزم الناس من استكثر من الأصدقاء، وقد نقلوا عن بعض الحكماء أنه قال لابنه: (يا بني اتخذ ألف صديق والألف قليل)، كما أن من أكثر الناس تفريطًا من ضعف عن التمسّك بصداقاته، وفيما يلي وقفات يُستعانُ بها على إبقاء العلاقات دافئة:
الوقفة الأولى: إدراك أهمية الصديق وأنه نعمةٌ عظيمةٌ، وهذا من أنفع وسائل المحافظة على الصداقات؛ فإن المعرفة بقيمة الأشياء مظِنَّة صيانتها، ومن جهل مقدار شيءٍ هان عليه التخلّي عنه في أول اختبار يتعرّضُ له، ويكفي في أهمية الصديق أن الله تعالى قال في أوصاف هول يوم القيامة: (وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا)، فجعل ذهول الصديق عن حال صديقه علامةً على فداحة الخطب الذي حَلَّ بالخلق يومئذ، ومما قصَّ الله علينا من حسراتِ أهلِ النار أنهم يقولون: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)، ففي هذا العذاب الـمُهين والمثوى الفظيع يؤسفهم أن لا شفيع ولا صديق لهم، وقال أكثم بن صيفي أحد حكماء العرب: القرابة تحتاج إلى مودّةٍ، والمودّةُ لا تحتاج إلى قرابة.
الوقفة الثانية: أن من طبيعة البشر الخطأ والزلل، وتتضاعفُ فُرَصُ أن يظهر لك ما عند المرء من الخطأ، وما جُبِلَ عليه من الضعف والتقصير كلما عايشته وداخلته، وارتفعت الكُلَف بينكما، ولم يَعُد يتحفّظُ منك، فالـمُوفّقُ من إذا ظهر له من صديقه ما لا يُعجبهُ من قبيل هذه الأمور تغاضى عنه، ومن كلّفَ صديقه ألا يُخطئ في حقِّهِ، وألا يُقصِّرَ في مراعاته، فقد أرهقه من أمره عُسرًا، وبالغ في الاشتراط، ومن كان معيارُه في العلاقات أن الصداقة بشرطِ البراءةِ من الزّلل بقي وحيدًا، ولله در القائل:
ولَستَ بمُستَبقٍ أَخًا لا تَلُمّهُ على شَعَثٍ، أيُّ الرّجالِ الـمُهَذَّبُ؟
الوقفة الثالثة: استصحاب ضرورية إنصاف الآخرين، فالإنسان يُدركُ في قرارةِ نفسه أنه ليس خَلِيًّا من التقصير، وأنه يهفو في حقِّ الناس، ويُقصِّرُ أحيانًا حيث يُتوقّعُ منه ألا يُقصِّر، وأغلب الناس يعرف من نفسه ما يمتعضُ منه إذا صدر من الآخرين، ومع هذا يرتقب من أصدقائه تَقَبُّلَ ذلك بصدورٍ رحبةٍ، ومقتضى الإنصاف أن يتقبّلَ منهم ما يُحبُّ أن يتقبّلُوه منه، والإنصاف في التعامل من الخصال الفاضلة الـمُرغَّبِ فيها، ففي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ).
الوقفة الرابعة: من الأخطاءِ الشائعةِ رُخْصُ الأخوة والصداقة والمعرفة عند كثيرين، فتراه يَصْرِمُ حَبْلَ الوداد بأقلِّ عثرةٍ تعترض طريق العلاقة بينه وبين صَفِيِّهِ، وكثيرٌ ممن يقع في هذا يُحاولُ جبرَ الكسورِ النفسيّةِ التي تُخلِّفُها هذه الظاهرة بالإكثار من استحداث صداقاتٍ آنيَّةٍ ليس الهدف منها الأخوة والألفة، بل هي حلولٌ مرحليةٌ ولديه الاستعدادُ التامُّ للتخلُّصِ منها متى بدا له ذلك، ولا يدري من هذا حالُه أن المتذبذب في علاقاته لا يفرحُ الناسُ بصداقته، ولو جامله مُجاملٌ فجالسه أو سامره، فهو مُنطوٍ على زُهْدٍ فيه، ومما يُروى عن بعض الحكماء أنه قال لابنه: (يا بني لا تترك صديقك الأول فلا يطمئن إليك الثاني).
الوقفة الخامسة: لا ينافي ما سبق مُعاتبةَ الأخلّاء فيما بينهم بالتي هي أحسن، وترميم ما تصدّعَ من بناءِ الصداقة بألطف العبارات وألين الكلمات، فمثل هذا العتاب إجراءٌ مُتعارفٌ عليه، وهو - بإذن الله تعالى - ينفع ولا يَضُرُّ، ويُقرِّبُ ولا يُباعدُ، وهو كغيره من أنواع العلاج إنما يتعاطاه العقلاء عند اللزوم، وبالقدر الذي يتعلَّقُ به الغرض، وإدمانُهُ في كُلِّ الحالات ضارٌّ كتناولِ الـأدوية في كُلِّ الأوقات، كما أن تجاوز الحدّ فيه كأخذ جُرعةٍ زائدةٍ في العلاج.
الوقفة السادسة: لا نَعْدَمُ أن نرى أخوين متصافيين لا تُكَدِّرُ الظروف صفوَ علاقتهما، ولا تمتدُّ أيدي الشقاق إلى ذاتِ بينهما، يدومان على هذا حتى يُفرِّقَ الموت بينهما، ثم يبقى الـمُستأخرُ منهما وفيًّا للمُستقدمِ يدعو له ويتصدّقُ عليه، ويُثني عليه بما عَرَفَ من فضائله، وربّما صار ذلك مُتوارثًا بين عقبيهما، وليس سبب ذلك أنّ كُلًّا منهما معصومٌ من الزّلل والتقصير في حقِّ صاحبه، بل لأنهما صابرا وثابرا، وتناسيا مرارة الإساءة بحلاوة الإحسان والصفاء.
نقلا عن الرياض