كتبت مرارًا فى الفترة الأخيرة عن موضوعين رأيت أن ابتعد عنهما مؤقتًا حتى يجد الجديد فى أمرهما وهما سد النهضة الذى أدى التعنت الإثيوبى فيه إلى وصول المباحثات حوله إلى طريق مسدود بعد أن كان الاتفاق وشيكًا، والثانى هو المحنة العالمية بسبب ذلك الفيروس المسمى كورونا الذى أقلق الدنيا وأزعج البشرية وأصاب الإنسانية بالذعر فى كل مكان والذى يبدو وكأنه حرب عالمية ثالثة بغير معارك أو ميادين قتال أو جنود أو أسلحة.
لذلك قررت الهروب بالكتابة فى موضوع مختلف وآثرت أن أتعرض للإجابة عن سؤال مهم وهو: هل يمكن اعتبار كتابات السير الذاتية مصدرًا موثقًا فى كتابة تاريخ فترة معينة سجل معاصروها تاريخهم الشخصى بصورة تمس مباشرة نوعًا من التقويم لفترات بذاتها؟ إن الإجابة عن هذا السؤال سوف ترفع عنا كثيرًا من اللبس الذى يحيط بكل الكتابات الانطباعية والمذكرات الشخصية التى أرى أحيانًا أنها تجافى الحقيقة وتحاول إضفاء البطولة وإصباغ التفرد على صاحب المذكرات الذى يتحدث عن مزاياه ولا يقترب من خطاياه، ويلقى باللائمة على غيره ويرفع من يشاء فيما يكتب ويخسف بمن يشاء فيما يروى تصفية لحسابات معينة أو استجابة لأهواء جديدة ظهرت على الساحة مع نظام سياسى مختلف، وما زلنا نتذكر كيف أرخ عبد الرحمن الجبرتى للحملة الفرنسية والفترة الأولى من عصر محمد على وكان الرجل يبدو أحيانًا ساذجًا لأنه كان مندهشًا أمام بعض الوقائع كما يتضح ذلك من حديثه عن (القنبر) وهى القنابل الصغيرة التى كان يستخدمها الفرنسيس لتخويف الشعب المصرى وإخضاعه لحملتهم التى تأرجحت لدى المؤرخين بين الرسالة الثقافية فى جانب وبين الغزو العسكرى فى جانب آخر، ولو أردنا تقييم مؤرخ آخر مثل عبد الرحمن الرافعى فرغم جهوده الكبيرة إلا أنه راح ضحية الولاء السياسى للحزب الوطنى الذى انتمى إليه بصورة جردته من أسباب الموضوعية ومظاهر الحياد فحمل كثيرًا على حزب الوفد رغم أنه حزب الأغلبية الذى كان يمثل الوعاء الوطنى للنضال من أجل الاستقلال والدستور، وبذلك حرم الرافعى نفسه من أن يكون مؤرخًا موضوعيًا لا يحكمه الهوى ولا يؤثر فيه الانتماء، ولعلى أتذكر الآن مذكرات واحد من رجال يوليو لم يكن من الصف الأول لضباط الثورة ولكنه خلع على نفسه صفات وادعى لذاته مواقف ليس عليها شاهد فهو يقول: كنت أنا وفلان رحمه الله من القيادات العليا للثورة وحدنا فلعنت أبويه وعنفته وقد وصل به الحد أيضًا حتى أن قال إنه حاول اغتيال الملك فاروق قبل الثورة فى مناسبة رسمية وتوقف عن ذلك فى اللحظات الأخيرة، وأنه فى إحدى النقاشات حاول تقييد عبد الناصر! أما السادات فهو يزعم أنه كان يخشاه ويكاد أن يقبل يديه خوفًا واحترامًا، وفى ظل ذلك الركام الكبير من الكتابات الانطباعية وادعاء العبقرية الساذجة من خلال تاريخ السير الذاتية نبحث عن المسيرة الصحيحة للوطن فلا نجدها؛ لذلك فإننا يجب أن نعتمد على التاريخ الموثق والحقائق المؤكدة والوقائع الثابتة وأمامنا محاذير ثلاثة هي:
أولًا: إن هناك عاملًا خطيرًا عند الحكم على المذكرات السياسية وهو الذى يتمثل فى عامل المعاصرة فالذين يكتبون عن فترة عاشوا فيها وكانوا جزءًا منها يقعون غالبًا أسرى الأهواء ويتورطون فى آراء ذاتية يحاولون إلباسها صفة العمومية لأنهم لم يتجردوا من مشاعرهم الخاصة وهم يكتبون عن حكام تعاملوا معهم أو زعماء احتكوا بهم فتكون النتيجة أن المعاصرة تؤدى إلى البعد عن الحياد وافتقاد الموضوعية.
ثانيًا: إن ثقافة من يكتب التاريخ هى عامل أساسى فى تحديد ما يمكن أن يصل إليه الكاتب من نتائج أو استنتاجات، فالأمر فى النهاية محكوم برؤيته الشخصية وتجربته الذاتية، فالمعاناة تنعكس على قلم الكاتب والإحساس بالظلم يجعله منحازًا لما يراه هو أو يكتبه، ولدينا نموذج بارز فى هذا الشأن لكاتب هو الأقدر والأهم فى تاريخ الصحافة العربية وأعنى به الأستاذ الراحل محمد حسنين هيكل عندما سطر كتابه الشهير (خريف الغضب) متأثرًا بتجربة مريرة ورصد ذاتى لأحداث سبتمبر 1981 وما قبلها.
ثالثًا: إن كتابة السيرة الذاتية تخضع للظروف التى تجرى الكتابة فيها والمواءمات التى يقوم بها صاحب المذكرات وكثير منها قد أثار لغطًا شديدًا فى العقود الأخيرة، فما زلنا نتذكر ما كتبه المفكر المصرى الراحل د.لويس عوض فى (سنوات التكوين) أو ما سطره الفيلسوف الراحل د.عبد الرحمن بدوى وفتح به بابًا لمعارك كثيرة، وأيضًا المؤرخ المصرى الراحل د.رءوف عباس، فالصدق فى المذكرات قد يؤدى أحيانًا إلى نكء الجراح وفتح ملفات ربما لم يكن هناك داع لها، وقديمًا قالوا: لم يترك لى قول الحق صديقًا! لذلك فإن كتابة المذكرات الأمينة تحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة والبعد عن المجاملة والتجرد الكامل أمام الحقيقة وحدها دون غيرها، وإذا كنا نظن أحيانًا أن للحقيقة وجهين فإن علينا أن نحترس تمامًا بدلًا من أن نخوض فى قصص وهمية أو أحداث غير مؤكدة، فالمصداقية هى القيمة الحقيقية للسير الذاتية.
إن مسئولية الكتابة التاريخية لابد أن تقع على عاتق مؤسسة قومية ليس لها غرض أو هدف إلا إجلاء الحقائق ووضع القيادات والزعامات فى مكانها الطبيعى دون تأثر بالمناخ العام الذى يسود أو البيئة السياسية الجديدة، فالتاريخ لا تكتبه الأهواء ولا تسطره المواقف الشخصية ولا تسجله الملاحظات الفردية.

