إلى وقت قریب كان ارتباط الفرد بالثقافة یعتبر عملا نخبویا، وھو كذلك، على الأقل في الدوائر البحثیة الجادة. لم یدر في خلد أي شخص سواء
كان ممارسا للثقافة، ومتورطا فیھا للعمق، أو شخصا مراقبا من الخارج، كان یتوقع أن تتفتت حدود العمل النخبوي، ویتلاشى صرحھ أمام
.ضربات المسارات المتعددة التي غیرت مجرى التعاطي مع الثقافة في سیاق تطورھا الاجتماعي والاقتصادي والسیاسي عربیا وعالمیا
قبل عقدین أو ثلاثة من الزمن فقط، كان ركوب موجة الثقافة والإبحار في دروبھا ھو بمثابة عنوان كبیر على وجود مثقف لھ سماتھ وصفاتھ
وموقعھ ومعیاره الذي یعرف اجتماعیا. وبالتالي یندرج تصنیف المثقف ضمن فئة معروفة، بحیث تختلف من بلد إلى آخر، من حیث النوعیة أو
الكثرة أو الحراك المرتبط بھ. وعلیھ یسھل حصر المثقف وتحدیده لأنھم یشكلون في نھایة الأمر النخبة التي تدل دلالة صریحة على كونھم قلة،
فضلا عن كونھم معروفین، فإنھم أیضا ینشئون شبكة من العلاقات فیما بینھم. لكنھم رغم ذلك لا یمثلون طبقة اجتماعیة معینة، ولا تجمعھم
مصلحة أو ھدف واحد مشترك مثل أي تنظیم حزبي أو مھني أو دیني، بل نشاطھم الفكري أو الأدبي في سیاق منجزھم ھو في حد ذاتھ الصفة
.المشتركة التي تسمح للآخرین أن یطلقوا علیھم صفة المثقف باعتبارھا صفة یشتركون فیھا جمیعھم
بعد دخولنا الألفیة الثالثة ماذا جرى؟ أو ما الذي تغیر في التركیبة التقلیدیة للمثقف في علاقتھ بمفھوم النخبة؟
لقد جرى انزیاح كبیر لھذا المفھوم، بل انھدت أساسیاتھ، ووقع البیت على من فیھ، وانكشفت الحدود، وغارت السمات، وتشظت كل فكرة أو
.تصور في أذھان الناس عما تعنیھ النخبة أو ما یعنیھ المثقف تحدیدا
طبعا مثل ھذا التحول أو لنسمیھ الانقلاب لم یأت في یوم ولیلة، أو أنھ حدث فجأة دون أسباب تأخذ رقابھا برقاب بعض. أتذكر في عقدي
الثمانینیات والتسعینیات كانت الأنشطة الثقافیة في المؤسسات الرسمیة في مجتمعنا السعودي تمثل العلامة على صوت النخبة المثقفة، وتعلن
عن حضوره باعتباره مثقفا. وكان ھذا الحضور أو الحراك من القلة بحیث لا یغیب اسم مثقف عن أذھاننا سواء على المستوى الفكري أو
الأدبي، ولا الأنشطة المرتبطة بھ منبریا أو نصیا. وھذه أكبر دلالة على محدودیة النخبة كما ونوعا وبالتالي المثقف، ولیس دلالة على الفاعلیة
.فقط
الآن بفعل التحول الذي طال بنیة ثقافة المجتمع، وارتباط ھذه البنیة بشبكة معلوماتیة تدار ضمن حركة عولمة الكائن، وبرمجة عقلھ برمجة
رقمیة، بحیث تلاشت معھا جمیع الحدود التي كان یضعھا ذھن الإنسان في تصوراتھ للأشیاء والعالم، وأصبح ھذا الذھن أو العقل یرى نفسھ
مثقفا ومفكرا وشاعرا في نفس الوقت دون أدنى تناقض أو حتى الإحساس بھذه المشكلة التي خلفھا إمحاء الحدود. ودخلنا معھا في ظاھرة ما
نسمیھ الثقافة الشعبویة تزامنا مع ما یتصل بھذه الظاھرة الشعبویة في جانبھا السیاسي الدیمقراطي حول العالم. المأساة في الأمر كلھ حین تجد
مثقفا نجما تمرس النجومیة فیما قبل ھذه التحول. لكنھ حینما استشعر فقد ھذه النجومیة صار یبحث لھ عن نجومیة في وسط لا یسمح لھ بذلك
.مثلما ھو الحال في طریقة عمل شبكات التواصل الاجتماعي، التي لا تتیح لك الفرصة أن تكون نجما على طریقة المنابر التقلیدی
نقلا عن اليوم