عصرنا هذا هو عصر الرؤية، وهذا يعني أن يكون نشاطنا على ضوء منهج وخطط وبرامج ودراسات، ونحن أحوج ما نكون إلى تناول الأفكار كتناولنا لأيّ موضوع مادي من حيث التحليل والتركيب. نعم للأفكار طبيعتها المجردة التي تميزها عن المحسوسات، ولكن هذا التميز يتجلى في حالتها الساكنة المسطورة في الكتب، وهي حينئذ ليست هدفا لأي دراسة عملية، بل هي من اهتمام الفلاسفة والرياضيين والمنطقيين، إنما المقصود دراسة الأفكار في حالتها المتحركة المتمثلة في شخص أو كيان أو مؤسسة.

فيما يتعلق بسياسة الأفكار يمكن التفريق بين نوعين: سياسة ارتجالية عمادها الخبرة، وزادها الحدس والدهاء، ويغلب عليها الحلول العاجلة، دون اهتمام بدراسة الجدوى وحساب الأرباح والخسائر وتوقع الآثار المستقبلية. وسياسة مقاصدية تَدْرُس وتُخَطِّط، ويتعامل صاحبها مع السياسة على أنها علم له أصول وقواعد وليست مجرد خبرة ومهارة. ومن أوّليات السياسة المقاصدية للأفكار امتلاك قواعد بيانات للأفكار ذات العلاقة، الساكن منها والمتحرك، تتم من خلالها الدراسة ثم وضع الخطط والبرامج، أو وضع الاقتراحات وحلول المشكلات ونحو ذلك.

من المهم توصيف المرحلة الفكرية بدقة قبل القيام بأي نشاط، فالحكم على الشيء فَرْعٌ عن تصوره كما يقال، فإذا كنا نتصور أننا نحتاج إلى ثورة فالتعامل مع الأفكار سيختلف كثيرا عما لو تصورنا أننا محتاجون إلى إصلاح الأفكار الحالية. والحق أن مرحلتنا هذه هي مرحلة "إصلاح الأفكار"، لأن أصولنا الفكرية صحيحة في ذاتها لكن مشكلتها أنها غير فعّالة اجتماعيا. وهنا يجب التفريق الواضح بين الصحة والفاعلية؛ فقد تكون الفكرة صحيحة منطقيا أو شرعيا ولكنها غير فعّالة اجتماعيا كأن تَفقِد القدرة المادية أو البيئة الاجتماعية المناسبة مثلا، ولذلك لم ينجح بعض الأنبياء في دعوتهم وهم الذين يأتون يوم القيامة ومعهم الواحد أو الاثنان أو الثلاثة أو ليس معهم أحد! مقابل أنبياء آخرين نجحوا نجاحا باهرا ولا يزال نجاحهم مطردا إلى الآن كخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم.

وأمر آخر؛ أنّ من أهم جوانب الإصلاح الفكري هو معرفة قوانين "تلقيح الأفكار"، وهذا يتطلب سياسة مقاصدية منهجية بعيدة عن الارتجال مهما كان مبنيا على الخبرة المتطاولة، والذكاء الفطري، والحدس، وسرعة التغيير ،والتحوّل عند إدراك ملامح خطر مستقبلي مقبل، لأن الفكرة غير المناسبة حين تُحقن في وريد المجتمع أو تُبلع كما تبلع حبة الدواء لمعالجة أزمة قائمة فسيبقى لها أثر سلبي حتى لو توقفنا عن تناولها مرة أخرى. ويبدو أن تلقيح الأفكار مشابه في العموم لتلقيح الأزهار؛ فكما أن هناك تلقيحا طبيعيا تنتقل فيه البذور من زهرة إلى أخرى عن طريق عناصر البيئة الطبيعية (الرياح والحيوانات والحشرات والماء)، وتلقيحا متعمّدا عن طريق الإنسان، فكذلك في عالم الأفكار تلقيح طبيعي تلقائي عن طريق التزاوج والاختلاط والهجرات والسياحة والانتقال الوظيفي ونحو ذلك، وتلقيح متعمّد واعٍ عن طريق التعليم والإعلام ومؤسسات الفنون والمؤلفات والجماعات الفكرية والأحزاب السياسية ونحو ذلك. ومن ناحية أخرى كما أن في عالم النباتات تلقيحا ذاتيا يحصل داخل الزهرة الواحدة، وآخرَ مختلطا يحصل بين زهرة وأخرى، فكذلك في عالم الأفكار تلقيح داخلي يتم بين مذاهب أو طوائف أو تيارات داخل المجتمع، وتلقيح آخر بين مذهبين أو تيارين من مجتمعين مختلفين، متجاورين أو متباعدين، وفي عالم النباتات يستطيع الإنسان بما يصل إليه في كل مرة من تقدم معرفي أن يطور من سلالات النباتات والأزهار أنواعا مهجنة من الفواكه والثمار، تعطي إنتاجا جديدا شكلا ولونا وطعما ورائحة، وكذلك يستطيع مهندس الأفكار أن يقوم بشيء مشابه لذلك، وهذا المجال تحديدا – أعني التلقيح المقصود للأفكار – هو ميدان سياسة الأفكار الذي تَبرُز فيه مناهجُها ومدارسها ومستوياتها.

ولكي يكون التلقيح الفكري ناجحا فعّالا لا بد من شروط، لعل أهمها ثلاثة: الاتفاق في الأصول العامة، والاستعداد أو الحاجة، والتهيئة الاجتماعية. وبقدر الإخلال بهذه الشروط أو بشيء منها يكون الاختلال في الأفكار المتولّدة، سواء كان الاختلال في منطق الفكرة الداخلي أم في صلاحيتها الاجتماعية، كما حصل سابقا من تلقيح السلفية المحلّية بالإخوانية الواردة؛ فمن أصول السلفية الحرص على الجماعة وطاعة ولي الأمر في غير معصية، والإخوانية حزبية تعمل على إسقاط الجماعات المخالفة لمشروعها لإقامة حلم الخلافة الذي تسعى له، هذا غير الاختلاف في أصول اعتقادية وفقهية أخرى، فكانت النتيجة أن تولدت من هذا التلقيح ثمرة "السرورية" التي أصبحت أشد مكرا وأسوأ أثرا من الإخوانية الخالصة. وكان الأنسب هو تلقيح السلفية الحنبلية – حين كانت في مرحلة ما بحاجة إلى تطوير – بتطعيمها بالمذاهب الفقهية الأخرى (الشافعية والمالكية والحنفية)، فالأصول واحدة وهي الكتاب والسنة والجماعة، وكذلك يتوفر فيها كلها القواسمُ الاجتماعية المشتركة، وأيضا عنصر الحاجة أو الاستعداد للإصلاح؛ فالسلفية الحنبلية كانت تنطوي في ضميرها على نداء المدنية وتَطلُّب التحديث الحضاري، في مقابل نداء التصفية العقدية الذي كانت المذاهب الفقهية الأخرى تنطوي عليه وتبحث عنه، والجميع يُظلهم وطن واحد ومقاصد حضارية واحدة، فكانت الفرصة مواتية جدا لعملية تلقيح فكري وطني متين وفعال، ولكن الذي حدث هو تهميش تلك المذاهب الفقهية السنية وفرض الحنبلية من خلال مؤسسات التعليم والقضاء، إلى أن بلغت الحالة الفكرية حدّ التأزم، فكان الحل بتلقيح السلفية الحنبلية بفكرة حزبية دخيلة مناقضة للفكرة الوطنية في بعض الأصول، فزاد الطين بلة. في جزء قادم سأتناول جانبا آخر من جوانب سياسة الأفكار وإدارة الصراع الفكري.